د. فهد اليحيا
عند مشاهدتك فيلم «عبْد» لا تقل كيف يحدث هذا عندنا؟ ولماذا؟ وأين؟ إلى آخر أدوات الاستفهام. الفيلم ليس خيالًا علميًا كما يُدّعى فحسب، ولكنه غرائبي أيضًا، بل ولا يخلو من غموض. إذ إن فيلم الخيال العلمي متسق مع واقعه الخاص، في حين أن «عبد» قائم على المفارقات والتناقضات غير المنطقية، التي «لا تدخل العقل» حتى يوصل رسالته.
ملخص قصة الفيلم:
يتخرج الطبيب «مُلّح»، ابن «سالم» المحقق في الشرطة، وقد درس الطب حسب رغبة والده، الذي يفرح بتخرجه ويدعو إلى وليمة احتفالاً بهذا، ولكنه لا يخبر ولده عن التفاصيل فيحضر الوليمة لابسًا الشورت والتي شيرت.
لاحقًا يخبر والده أنه فعل ما عليه، والآن سيتبع ما كان يصبو إليه، وهو أن يذهب في بعثة لتعلم فون الطهي. يوافق الأب مرغمًا ظاهريًا ويسافر «ملح»!
ننتقل إلى الوقت الراهن بعد 10 سنوات لنجد الشاب «سكِّر» وزوجته «لطيفة» يحاولان اللحاق بـ«هبة» السوشيال ميديا، فيقدمان مقطعًا عن الإدمان. وهنا تثور ثائرة أبناء عمومة الزوجة، والمجتمع، ووسائل الإعلام. ويقود الحملات «نجم» تويتر وغيرها الذي لا يفتأ عن ازدراء وتحطيم أي مشهد يقومان به.
المحقق «سالم» يحاول مساعدة «سكِّر» بأن يعينه بالعودة إلى الزمن الماضي قبل 48 ساعة ليحسن في مقطع الفيديو بما يتناسب مع المجتمع! وأتوقف هنا لتكمل مشاهدة الفيلم إن لم تفعل بعد!
مع الفيلم:
منذ سمعت عنوان الفيلم «عبد» ملأني الفضول لمعرفة المقصود. ولكن من بداية الفيلم تكشف لي السبب وصانعو الفيلم يعطونك المفاتيح واحدًا تلو الآخر: حين يكون المرء عبدًا لرغبات الأهل، لتوقعات الأحباب، للتقاليد، لرأي الآخرين، للمجتمع… إلخ! من بداية الفيلم تبدو سطوة التقاليد والمجتمع.. والاختلاف معها! ليست دعوة للتمرد، ولكن دعوة لتحقيق الذات، والتفرد، ومواجهة المتنمر!
فهل نجح في هذا؟
هذا هو السؤال ومربط الفرس. ولكن حجر الزاوية قبلاً؛ هل قدم لنا متعة؟ هل أعطانا فنًا! هذا ما سنحاول مناقشته في هذا المقام!
بدايةً، الفيلم جريء في طرحه، وفي موضوعه، وفي سرده السينمائي: يبدأ الفيلم بلقطة لرجل تبدو صورته باهتة، ينظر في جو ممطر من نافذة في الدور العلوي، بين جانبي ستارة إلى الأسفل، يهز رأسه بأسى، ويرخي جانبي الستارة ويقفل عائدًا. الموسيقى المصاحبة – بثيمتها الأساسية – جميلة وموحية بالغموض. وتنتهي اللقطة أو المشهد بصوت شبيه بالرعد. وينزل العنوان «عبد» مكتوب بشكل يشبه الفن التكعيبي، على صورة مستطيل فيها خداع بصر قوي! سنجد لاحقًا أن المطر، والنافذة، والثيمة الموسيقية، وصوت الرعد، أساسيات من ركائز الفيلم.
لأن الفيلم ينتقل عبر الزمن، فالمونتاج وتوظيفه الدرامي مهم جدًا، وبرع فيه المونتير الذي هو المخرج في نفس الوقت. «ذكرني بفيلم The Groundhog Day 1993 ولكن لا علاقة بينهما، كما ذكرتني الساعة 12 ليلاً بفيلم Midnight in Paris 2012 وأيضًا لا علاقة البتة بينهما». مثلاً في الفيلم الجميل The Groundhog Day يستيقظ بطل الفيلم كل يوم بنفس الوقت وتبدأ سلسلة الأحداث التي تتكرر كل يوم مع تغيير بسيط من يوم إلى آخر. لكن في فيلم «عبد» لا يحصل هذا التتابع لأن حبكة الفيلم وقصته وهدفه مختلفة، فيختلف تتابع الأحداث وينتقل المونتاج بينها بسلاسة.
السيناريو متماسك ومكتوب بعناية. مثلاً في مشهد وداع “مُلّح” لأبيه فجأة ينظر إلى علبة «المصاقيل» «البرجون، البلي ومفردها بلية» وينظر إلى الساعة المعلقة على الحائط فينفعل فجأة وبدون سبب ليغادر مغضبًا، ونحتار نحن المتفرجين من هذا التصرف «الأرعن» لنكتشف السبب لاحقًا. ونكتشف أن «ليست كل المصاقيل مصاقيل» كما تقول دعاية الفيلم! نستغرب في البداية فارق العمر الصغير بين «مُلح» وأبيه، ولكن الحوار يبين لنا بسلاسة ولا افتعال أن الأب التقليدي «المحافظ» تزوج مبكرًا وحرص أن يُخلّف مبكرًا.
بعد سفر الابن تقفز أحداث الفيلم إلى المستقبل عشر سنوات لتبدأ حبكة الفيلم الرئيسية بالشاب «سكِّر» الذي تخرج في كلية لا يريدها إنفاذًا لرغبة أبيه، ولكنه يريد أن يقوم بصنع أفلام قصيرة مع زوجته المصورة يبثها عبر الإنترنت، ولكنه يواجه نقدًا قاسيًا من المجتمع فيحاول تعديل المنتج، وفي النهاية يكتشف أن «رضا الناس غاية لا تدرك» حتى نهايته المأساوية لا ترضيهم!
الفيلم غرائبي من البداية: الاسم «مُلح»، ودخوله على الجماعة بالشورت والتي شيرت. واسم «سكّر»، ويؤكد الأب المحقق «اللي أسماءهم غريبة يتصرفون تصرفات غريبة».
ومن الغريب أن الوقت على الساعة الموضوعة على مكتب الوالد يختلف عن الوقت الذي في ساعة الحائط. ولا أظن هذا خطأ في «الراكور» فهو أمر لا يخفى على مبتدئ، ولكن أخاله مقصودًا لتأكيد الغرائبية. ربما لأن الحديث عن الساعة 12 مرتبط في أكثر اللقطات بساعة الحائط.
حتى التترات «مشاهد العناوين» برسوماتها التجريدية حينًا، والكاريكاتورية حينًا آخر وباللونين البنفسجي والوردي pink، والموسيقى البديعة، تؤكد هذا الجانب.
تتأكد هذه الغرائبية عندما يتحدث مراسل قناة «العمالقة» التلفزيونية «عبدالفتاح مطيع» ليصور رد فعل المجتمع «الصاخب» و«الساخط» على فيديو «سكّر» وزوجته. ولكن الموقع خالٍ! ثم يقدم شخص يعيش في مرحلة «الهَرَبْع» ربما لاضطراب عقلي، أو تعاطي مواد مخدرة، وبيده سيجار كبير، وندبة تمتد من الجانب الأيمن لجبته حتى الوجنة مرورًا بالعين. والعين اليُسرى مغطاة بضمادة مدماة. ويبرز طرف حربة من الجانب الأيسر من الجبهة.
أرى هذا المشهد من أجمل المشاهد وأقواها ويبين جوانب كثيرة: الغرائبية التي ذكرتها، انسياق الإعلام وراء الإثارة بحثًا عن نسبة المشاهدين، اسم المراسل الوحي، السؤال المقفل الذي يقود إلى إجابة واحدة لا غير مثل: «ما رأيك في سواقة الشباب الطائش و«التفحيط» الذي يؤدي إلى حوادث مميتة وإعاقات دائمة»؟ أما أهم ما في هذ المشهد، فهو الشارع الخالي: نجم الميديا المسمى «الناقد» المتناقض جملة وتفصيلًا – من يقود حملة الانتقاد والتحريض يحظى بتأييد واسع يصل أحيانًا إلى 20 ألفًا ويحدث الانطباع أنه يمثل رأي الأغلبية. لكننا ننسى دائمًا «حزب الكنبة» وهو الأغلبية في كل بقعة من العالم.
هناك الكثير مما يقال عن جودة السيناريو، ولكني أكتب بذكر الدور الذي لعبته حبة «المصاقيل» من بداية الفيلم حتى نهايته باقتدار وبدون افتعال.
التصوير كان متقنًا ليس تقنيًا فحسب، بل إبداعيًا. ومن أقوى المشاهد التي تطلبت جهدًا كبيرًا من مدير التصوير «حسين سلام» والمخرج والممثلين: مشهد العراك في السيارة.
نأتي للموسيقى المصاحبة، وأظنها حلقت في سماء الإبداع، وكانت من نسيج الفيلم وتنوعت في إيقاعاتها وتلونت حسب الموقف. أما الثيمة الأساسية، فهي واسطة العقد. ولو كان للموسيقى لون كان لونها ورديًا. ولو كانت هناك جائزة للموسيقى الأصلية، كنت سأعجب لو لم تترشح هذه الموسيقى البديعة التي وضعها «صالح حداد».
جملة أكررها حتى مللتها: إذا أجاد كل الممثلين فهذا دليل على تميز المخرج الذي أخرج أجمل ما فيهم. الأبطال الثلاثة: خيرية أبو لبن وزياد العمري ومحمد علي برعوا في أداء أدوارهم.
فهد المطيري كان مجيدًا في دور «الناقد»، كل لقطاته – عدا واحدة – بذات الزي والهيئة والزاوية: داخل السيارة. وهذه عادة «اليوتيوبرز» ومشاهير «الجيد» ومشاهير «الفلس» الحفاظ على طراز معين يكون متصلاً بهم. في هذا الإطار المحدود والمُقيِّد” برع المطيري في أدائه الصوتي والإيمائي وتعابير الوجه. المذيعة «سلوى الأحمد» تميزت بدورها ولها مستقبل باهر.
الممثل الذي قام بدور قصير وعابر في الشارع الذي يقابله مراسل «العمالقة» كان مذهلاً في إدائه، ولم أتأكد من أنه هو المخرج منصور أسد إلا بعد أن اتصلت به أسأل! الصورة تزيد من الوزن وكلما اقتربت الكاميرا من الوجه بدا أكثر من حجمه. كما أنه غير من لهجته وطبيعة صوته، فوقعت في حيرة من أمري.
نأتي لبعض من المآخذ:
عندما يُحضر «سكّر» البيتزا إلى شقة لطيفة يفاجأ بوجود ابن عمها فيزعم أنه مجرد «مندوب» ويريد ابن العم أن يدفع له الحساب فيدعي أنها بالبطاقة الإلكترونية وليست نقدًا، وأن الجهاز في السيارة وعليه أن ينزل معه ليدفع هناك، وعندما ينزلان يفتعل عراكًا معه ولا ندري نتائجه ولا عواقبه. فضلًا عن أن السؤال: إذا كان الدفع بالبطاقة فقط وأنت تحضر الطلب لسيدة لما لا تحضر معك الجهاز وتتركه في السيارة! في تقديري هذي عثرة في السيناريو وربما يكون حلها أن الحساب مدفوع أصلاً بالبطاقة الائتمانية، ثم يفتعل شجارًا معه ليبعد ابن العم عن شقة لطيفة!
قلت إن في الفيلم غموضًا «على الأقل لي أنا» وهناك أشياء لم تلِنْ لي مغاليقها: سيطرة درجة اللون الوردي بدرجاته، المطر «الذي لم يبتل به أحد إلا لطيفة في آخر الفيلم عدا شعرها» وكذلك الرمز: الوشم على ظاهر يد الابن المتخرج في كلية الطب حديثًا وكان يغسل يديه بشدة كي يزيله.
أيضًا عندما قام الأب ليعانق ابنه يهتز ويكاد يترنح ويسقط لولا مساعدة ابنه له ويعلل هذا بأنه بسبب السهر.
هناك مشهد جميل لكنه غامض إلى درجة بعيدة: بعد عشر سنوات يعود الشيف الكبير «مُلّح» إلى الوطن ويدعو والده إلى فرع مطاعمه الذي افتتح اليوم. وفي مشهد ينضح بالعاطفة يتعانقان ولا يبدو وجه «مُلح» ولكنه أطول قامة «وهو مربوع» وأغزر شعرًا. وعندما يجلس مقابل أبيه لا يبدو لنا وجهه في لقطة أُبدع تكوين الصورة فيها إلى أقصى حد:
بروفيل خافت وباهت لوجه امرأة تجلس إلى طاولة متقدمة عن طاولتهما فتخفي وجه «مُلح». الإضاءة أقوى في الجانب الذي يجلس فيه الأب بعكس الجانب المقابل. وعندما يدخلان المصعد يظهر لنا جليًا أن مُلح أقصر، كما رأيناه في بداية الفيلم، طولاً من أبيه.
«مُلح» رضخ لرغبة والده فدرس الطب، ولم يأبه بكلام المجتمع، وتوجه ليحقق حلمه. كذلك فعل «سكّر» ولكنه وجد أنه في مواجهة المجتمع فحاول الرضوخ له حتى استسلم. هل استسلم؟ لا ندري فالنهاية مفتوحة.. ولكن هناك خطر داهم: العبودية لما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي، والشهرة، والمال!
في مهرجان أفلام السعودية التاسع مايو 2023 نال الفيلم عن جدارة جائزة أفضل فيلم روائي طويل، وأفضل مونتاج «منصور أسد»، وأفضل سيناريو منفذ «رولان حسن بمساعدة هشام إبراهيم».