عبدالرحمن الأنصاري
في إحدى المناطق النائية يجلس رجل بسيط أمام شاشة التلفاز لمتابعة فيلم «الناصر صلاح الدين» للمخرج المصري القدير يوسف شاهين، يتفاعل بحماسة مع المشاهد ويدور في رأسه مئات من المشاهد التي تُجسِّد مرحلة من التاريخ الإسلامي، حتى إذا ما انتهى من المتابعة ينخرط في نقاش مع حفيده عن ملابسات الظروف التي شهدت تلك الحقبة التاريخية، ويبدي أيضًا رأيه في الأحداث إيجابًا وسلبًا.
المفارقة أن هذا العجوز لم تتح له فرصة تعلم القراءة والكتابة، ولكن السينما وفّرت له فرصة للتعرف على جانب ثقافي مهم، جعله يدرك تفاصيل حقبة تاريخية، وهي الرسالة المهمة التي يؤديها الفن إزاء السياقات التاريخية للدول والأمم عمومًا.
من هذا المنظور، تمتلك صناعة السينما فرصة للإسهام بجزء مهم في صياغة التاريخ بعيون المستقبل، اعتمادًا على أحدث التقنيات والتكنولوجيات التي تضع إطارًا احترافيًا للمراحل التاريخية وشخوصها، ما يجعلها أقرب إلى المعايشة في الحاضر، وتضع المشاهد في قلب هذه الأحداث.
القيمة الإضافية التي تمتلكها السينما، هي أن قوة الصور المرئية والحركية تتفوق على السجلات المكتوبة والروايات المحكية، وبالتالي يبقى تقديم التاريخ في قالب فني تمثيلي، يجعله أكثر إدراكًا من المتابعين ويمد المشاهدين بحيثيات حول الأحداث في سياق تشويقي، تلبية للثقافة الإنسانية المشدودة دائمًا للتعرف على التاريخ.
ولذلك، فإن السينما السعودية أمام فرصة مهمة لعكس التاريخ المليء بالقصص والمحطات البارزة لنقلها للجمهور في قوالب مشوِّقة ومفيدة على الصعيد الثقافي، وهو ما يساعد أيضًا في تشكيل الوعي الجماهيري بقضايا الأمة ومحطاتها التاريخية.
المملكة العربية السعودية، وهي مركز العالم الإسلامي والعربي، تمتلك تاريخًا مليئًا بالأحداث الفارقة التي شكَّلت جزءًا من تاريخ الأمة عمومًا، والمملكة تحديدًا، ونقلها في قوالب فنيّة يزيد من قوة حضور التاريخ وسرده للأجيال الحالية والقادمة للتعريف بتاريخهم وحضارة أجدادهم.
الميزة التي تضيفها الأعمال السينمائية التاريخية تتمثل في قطع الطريق أمام محاولات الغير، سرد تاريخنا بعيون أجنبية، يتخللها الزيف والتحريف أيضًا، وخدمة السياقات الدرامية أحيانًا أخرى، وفي كل الأحوال ليس بمقدورهم تجسيد التاريخ أكثر من أهله.
كما تعمل الأفلام على نقل صورة ذهنية عن الأحداث التاريخية مستمدة، ليس فقط من الحوار، ولكن أحيانًا تعكسها التفاصيل غير الشفهية، مثل: لغة الجسد، وأبعاد المشهد، والموسيقى التصويرية، حتى باتت مقطوعات موسيقية مرتبطة في الأذهان بأحداث فنية معينة.
السينما تنعش الذاكرة التاريخية وتقويها، وتخلق ذاكرة جماعية حول محطة بارزة في التاريخ المعاصر أو القديم، مستفيدة من خبرة المؤرخين وقدرة صناع الأفلام على تضمين الأعمال تفاصيل تقنية وتصويرية شديدة الإبهار والتشويق، تضع المشاهدين في قلب الأحداث.