سلطان القثامي
يراود المخرج السعودي اليوم مسألة جوهرية في السينما، اعتادها صناع الأفلام منذ بدايات السينما. فعندما نتتبع تاريخ تطور السينما، نجد أن هناك انقسامًا بين رواد المجال حول الهيكلة السليمة لصناعة الفيلم. ويعود هذا الانقسام إلى التركيبة المعقدة للسينما، فهي تعتمد على عناصر أساسية ومترابطة لإتقان العمل، ويحتاج كل عنصر مكوّن إلى دقة في البناء والانصهار مع بقية عناصر العمل السينمائي. ظاهريًا، يمكن القول إن الفيلم عبارة عن مزيج متناسق بين الشكل والمحتوى، أي بين الآلة أو الوسيلة التي تعبر عن الموضوع والقصة التي يستند إليها الفيلم في معالجته لحدث اجتماعي معين. لذلك، يجب أن يُبدي المخرج جاهزية تامة وجهدًا كبيرًا لإيجاد تناغم بين قصة المؤلف والبراعة التقنية للمصور والمحرر ومهندس الصوت وغيرهم.
ولكن: هل يلتزم مخرجو الأفلام بهذا التكافؤ بين بنية العمل وشكله؟ بين القصة الواقعية والشكل الخارجي للفيلم؟ في الواقع أن سلوك الالتزام لدى صناع الأفلام نسبي جدًا، والسبب في ذلك ليس استحالة خلق هذا المزيج المتكافئ بين المحتوى والشكل، ولكن للفلسفة والنهج الذي يشدد بضرورة سطوة أحد الطرفين على الآخر حسب ما تتطلب طبيعة العمل. لذلك، ينحاز كثير من المخرجين لأحد المكونين، فإمَّا للشكلية أو الواقعية في بناء العمل السينمائي. فمنهم من ينتمي إلى الشكلية في الأفلام، وهي أسلوب في صناعة الأفلام يركز على العناصر الفنية والتقنية البحتة، مثل: التصوير والتحرير والصوت والمؤثرات البصرية.
فهي تُعنى بإبراز هذه العناصر التي غالبًا ما تساعد في تحقيق أثر نفسي في المتلقي، ولذلك تقلل الشكلية من أهمية المحتوى أو القصة وتركز أكثر على السمات الجمالية والتعبيرات المرئية للفيلم، وغالبًا ما تستخدم تقنيات غير تقليدية في سرد القصة مثل الرمزية البصرية، من أجل خلق تجربة فنية مميزة للجمهور. فبدلاً من الحوار أو القصة، يميل المخرج لتجسيد الموضوع من خلال استغلاله لخصائص الصور التي تظهر على الشاشة، ومعالجتها كي تصبح هذه الصور أشكالاً مميزة للتعبير والتواصل. وبالرغم من اعتقاد بعض صناع الأفلام الشكليين أن شكل الفيلم وبنيته متساويان، لا يمكن أن تسيطر القصة التي يرويها الفيلم على شكله. فبدلاً من تسليط الضوء على الواقع، تهدف الشكلية في السينما إلى إنشاء هيكل جمالي من أجل التأكيد على موضوعات الفيلم ورسائله باستخدام تقنيات الفيلم المتعددة.
ومن بين صانعي الأفلام المعروفين بهذا التوجه يبرز سيرجي أيزنشتاين وستانلي كوبريك وديفيد لينش في منهج الشكلية السينمائية. وفي الجانب الآخر، يدافع بعض صناع الأفلام، مثل: مارتن سكورسيزي وجان رينوار، عن واقعية العمل السينمائي، بحيث يحافظ الفيلم على موضوعه الإنساني ويحاول إبرازه عبر التقنيات السينمائية دون مبالغة في استخدامها حتى لا يفقد الموضوع أهميته. فتشير الواقعية كأسلوب سينمائي إلى الفيلم الذي يركز على دقة وأصالة المحتوى. ويتضمن هذا عادةً استخدام تقنيات أقرب للواقع، مثل: استخدام المواقع الحقيقية للأحداث، والكاميرات المحمولة، والإضاءة الطبيعية لإنشاء مشاهد واقعية غير مفلترة. فهي تولي اهتمامًا كبيرًا للحدث من خلال الالتزام قدر الإمكان بالواقع.
بالنظر إلى التجارب المحلية في السعودية، ألاحظ شخصيًا تفاوتًا في صناعة الأفلام. ظهرت الأفلام في البدايات كردة فعل تجاه ظاهرة اجتماعية مثل التطرف الديني، أهملت بشكل كبير عبقرية الكاميرا والمؤثرات البصرية في خلق بعد إضافي لأهمية الحدث الذي تناقشه. فنرى، على سبيل المثال، أفلامًا مثل: «شمس المعارف» و«بركة يقابل بركة»، تعتني بشكل كبير بالحدث والقصة بمعزل عن إمكانية تطويرها تقنيًا عبر المونتاج واللقطات المتنوعة. وهناك أفلام أخرى، مثل: «سطار»و«عثمان»، استثمرت في الجانب التقني على حساب بنية العمل. والأمر في الحالتين يبدو واضحًا، بحسب تفسيري.
اعتمدت الأفلام في بداياتها على الواقعية كون الفترة التي أنتجت فيها الأفلام هي فترة تحول وترقب لمجتمع جديد، وفترة تنعدم فيها الأفلام والدعم الرسمي للسينما. وفي المقابل، يبدو أن غالبية ما تم إنتاجه حديثًا، في السنتين الأخيرتين بالتحديد، قد اعتمد على الهيكلة الشكلية للفيلم لسببين: الأول هو توفر تقنيات أفضل ونضج أكبر في تجربة استخدام المؤثرات السينمائية، والآخر هو عدم نضج النص السينمائي. فلا يمكن تحقيق الاستفادة القصوى من المؤثرات التقنية والوصول لشكل أفضل للفيلم دون وجود نص متمكن.
في نظري أن التحيز للشكل أو الواقع ليست قضية، ولكن الكيفية المناسبة لدمج طرفي المعادلة، هي الأمر الحاسم في صناعة الأفلام بشكل عام. وهذا الأمر يتحقق مع التطور والبناء على التجارب السابقة في المجال. فكثير من الأفلام الناجحة عالميًا انحازت لأحد الشكلين، لكنها أثمرت في مزيجها السينمائي. مثال على هذا التجلي في الصناعة، هو فيلم «أوبنهايمر» الذي استطاع فيه نولان تسخير عنصر الصوت لتوضيح حجم وضخامة الجريمة النووية التي ارتكبتها الولايات المتحدة الأميركية في الحرب العالمية الثانية. فالموضوع مهم، وكذلك التقنيات مهمة جدًا؛ للتواصل مع المشاهد وتوعيته بالعمق الكبير للحدث وأثره على التجربة الإنسانية.