خالد ربيع السيد
عندما قالوا لها إن الشعب لا يجد الخبز، قالت لهم: «ولماذا يأكلون الخبز، فليأكلوا الجاتوه»، هذا كان رد ملكة فرنسا ماري أنطوانيت الذي يحمل من السخرية والغطرسة والتعالي الشيء الكثير. بعد قرنين سألوا شارل ديجول: ما صفتك في تمثيل فرنسا وشعبها؟ رد عليهم بمقولة نابليون بونابرت: «أنا فرنسا وفرنسا أنا»؛ لذلك عشق الفرنسيون ديجول حتى رحيله وظلوا أوفياء لمبادئه، ثم هتف نابليون ذات مرة قائلًا: فرنسا ستتبعني إلى النجوم.
لنتأمل الفارق بين مقولتي أنطوانيت ونابليون، الوجدان الذي تمثله كل منهما.. كانت مقصلة الشعب على موعد مع عنق أنطوانيت آخر ملكة فرنسية في أكتوبر 1793. وظل الفرنسيون يؤمنون بديجول حتى اليوم، وتبعت فرنسا نابليون إلى النجوم وإلى معركة «واترلو» وإلى منفاه في جزيرة ألبا، ثم منفاه الأخير إلى جزيرة سانت هيلانة.
نابليون الحقيقة والدراما
نابليون قائد عظيم والأعظم منه التفاف الفرنسيين حوله. قائد عسكري، وأول إمبراطور لفرنسا بعد الثورة التي أطاحت بالملكية عام 1789، واستطاع توحيد أرجاء واسعة من أوروبا بالقوة، لكنه مُني بهزائم متوالية كانت آخرها معركة «واترلو» عام 1815، حيث لجأ عقبها إلى القوات البريطانية التي نفته إلى جزيرة سانت هيلانة بالمحيط الأطلسي، ومات هناك بعد ستة أعوام، وهو في الـ51 من عمره. الشعوب تقدس من يستعيد لها كرامتها ويمنحها العدالة والأمن والغذاء، ونابليون فعل ذلك.
فيلم نابليون Napoléon «كولومبيا بكتشرز» للمخرج ريدلي سكوت 2023، وتأليف وسيناريو ديفيد سكاربا، يبدأ في رواية سيرة نابليون بعد فصل رأس ماري أنطوانيت عن جسدها وبدأ عصر جديد. يتجلى أداء الممثل خواكين فينيكس غير المنصف لشخصية نابليون. كان الشعب ثائرًا وفرحًا مستنهضًا كل طاقاته لبناء فرنسا جديدة. في بداية مشواره العسكري أبلى بلاء حسنًا في معركة استعادة قاعدة تولون البحرية من بريطانيا عام 1793، ما جعل القيادة العليا للقوات المسلحة تُقرر ترقيته من ضابط مدفعية الى رتبة لواء ولم يتجاوز عمره الـ24 عامًا. الفيلم صور ذلك الحدث بغاية الفنية والروعة المتوقعة من ريدلي سكوت.
نابليون كان قصير القامة. لكن لا هو ولا زمن عرض الفيلم «ساعتان و38 دقيقة» يمكن اعتبارهما قصيرين.
خواكين/ نابليون
لكن، حتمًا سنشعر بأن الفيلم أظهر نابليون حسب أداء خواكين على أنه متغطرس يثير الضحك في بعض المشاهد، ولكن شخصية نابليون كما دونتها بعض الكتابات التاريخية أنه كان متعدد الأوجه متقلب المزاج، ولكنه لم يكن معقدًا أو أرعن مضحكًا، أو لعلها إرادة المخرج وكاتب السيناريو ولا علاقة لخواكين بذلك، أرادا ذلك، وصوراه على هذا النحو، غير أنهما في كل الأحوال لم ينجحا في خلق حميمية أو تعاطف أو انبهار بشخصية إمبراطور فرنسا المهيب والعاشق المتيم لجوزفين الجذابة اللعوب. انشغلا بتصميم ومونتاج وتصوير المعارك وغفلا عن الإمبراطور.
سنتذكر فيلم واترلو Waterloo الذي أخرجه سيرجي بوندارتشوك Sergei Bondarchuk السوفييتي الأوكراني في عام 1970، وأيضًا شركة كولمبيا بكتشرز، وأدى دور نابليون الممثل الأميركي رود ستيجر، الذي اشتهر بأدائه لأدوار للشخصيات غريبة الأطوار والمتقلبة والمخبولة. هل العبقرية تؤدي إلى احتشاد العقل بعشرات التفاصيل، والتفكير فيها يقود إلى الخبل والغرابة؟ دون أدنى شك لم يصل خواكين إلى حرفية أداء رود ستيجر. ولا عيب في قدرات خواكين بقدر ما هي إخفاقة ريدلي سكوت في إدارة وخلق شخصية مؤثرة يخرج المشاهد من قاعة العرض وهي مسيطرة على تفكيره.
اهتم سكوت بالمعارك وبسالة الجنود والخيول «لأول مرة نشاهد قذيفة تفجر صدر حصان.. الخيول أيضًا شجاعة وتعرف الموت لكنها تنتصر لمن يمتطيها»، اهتم بالتصوير البانورامي والقريب وبالمؤثرات البصرية وبالديكورات والملابس والفخامة في القصور الفرنسية «ليس كما ينبغي» لكنه فشل في توليد نابليون من خواكين.
الفيلم لا يولي سوى القليل من الاهتمام للاستراتيجية أو العبقرية التكتيكية التي برع فيها نابليون، ولا بالاحتفالات المثيرة التي كانت تحدث في أعقاب النصر. ومع ذلك فهو يحتفظ بإحصاءات لأعداد القتلى، والتي تشكل قائمة متزايدة من الضحايا تضع إرث الرجل بأرقام إحصائية مروعة.
سيغمر المشاهد شعورًا وسؤالًا: كيف لهذه الشخصية الهزيلة التي سيطرت على مئات الآلاف من الجنود وحكمت ثلاثة أرباع أوروبا أن تكون بهذه الصفاقة، في حين ستقتنع تمامًا بأن نابليون الذي أداه رود ستيجر بأنه جدير وبالفعل حق له أن يقود جنوده ويحكم أوروبا. رأيناه في نسخة سيرجي بوندارتشوك محاطًا بشعبه الذي بجله وحمله على الأعناق وتجمهر أمام قصر الفرساي ليهتف باسمه: يحيا الإمبراطور.. يحيا إمبراطور فرنسا. أين ريدلي سكوت من كل هذا.
سكوت لم يجعل نابليون يتحدث ويفصح عن حبه لفرنسا ومجد فرنسا أو عن أفكاره وخططه وخطبه التي كانت تلهب الجنود؛ قلقه، هواجسه.. كيف لمخرج عظيم أن يتناول شخصية عظيمة بهذه السطحية المقيتة. ماذا دهاه؟ نعم، هي سقطة سكوت التي سيكابر على الاعتراف بها. ألم يجد سوى نزق الإمبراطور وحبه لجوزفين ليقدمه بهذه السطحية الساذجة؟
حب جوزفين
ركز سكوت في جزء كبير من الفيلم على علاقة نابليون الرومانسية مع جوزفين «فانيسا كيربي»، الأرملة التي تزوجها وهو في أوج عظمته. قصة الحب المحموم بالصراع والعشق المضطرب. «لن تكون شيئًا من دوني»، يجعلها تقول ذلك مباشرة قبل أن ينقل سكوت اللقطة إلى جوزفين وهي تطلب منه نفس الكلمات لاحقًا. هناك لمسة من الكوميديا الفاقعة في تفاعلاتهما.
يكشف الفيلم عن الكثير من الأحداث من خلال رسائل نابليون إلى جوزفين والتي تُقرأ بالتعليق الصوتي وتعطي شعورًا يربط جميع خياراته بمشاعر الحماسة لنصر فرنسا والغيرة على محبوبته.
«لم يمضِ يوم دون أن أحبك، لم أقضِ ليلة دون أن أفكر فيك، لم أتناول فنجان شاي دون أن ألعن المجد والطموح اللذين يجعلانني بعيدًا عن روح حياتي. وسط انشغالاتي، وأنا أقود الجنود، وأجوب المعسكرات، وحدها عزيزتي جوزفين تقبع في قلبي، تحتل روحي، تشغل تفكيري. إذا كنت قد ابتعدت عنك بسرعة جريان نهر الرون، فلكي أعود بسرعة لأراك، إذا كنت أستيقظ ليلاً لأعمل، فلكي أستعجل عودتي لرفيقة عمري الرقيقة…». هكذا كان يكتب لها.
الإمبراطور
تقول المراجع التاريخية إنه في شهر مايو 1804، أُعلنت فرنسا إمبراطورية، وكانت تشمل فرنسا وإيطاليا وأجزاء من بلجيكا وألمانيا والنمسا وصولاً إلى روسيا، واحتضنت كاتدرائية «نوتردام د. باري» حفل تتويج نابليون إمبراطورًا بحضور آلاف الوجهاء والساسة والقادة العسكريين والبابا، وبعد ذلك بستة أشهر تُوج نابليون إمبراطورًا لإيطاليا، وجرت المراسم في مدينة ميلانو. تناول الفيلم ذلك بشكل لا بأس به، وليس بما يستحق.
إذًا، أصبح نابليون إمبراطورًا يحكم أجزاء واسعة من أوروبا، وهو في أواسط العقد الرابع من عمره، ورغم ذلك كان طموحه التوسعي بلا حدود؛ فواصل حملاته العسكرية وشنَّ حربه الثالثة ضد الحلفاء «النمسا، وبلجيكا، وهولندا، وروسيا، وبريطانيا»، وفي شتاء عام 1805 انتصر في معركة أوسترليتز، وأخضع الحلفاء، وفرض الحماية على إسبانيا وجعلها تحت إمرة شقيقه. هذه المعركة الحاسمة لم يعتنِ ريدلي سكوت بها كما ينبغي، إنما اهتم بالأكشن وقصف المدافع وكأنه يقدم فيلمًا ليدغدغ مشاعر المراهقين.
جوزفين دي بوهارنيه الخائنة
في البداية تقول القصة إنه تم تنفيذ حكم الإعدام بحق الجنرال فرانسوا دي بوهارنيه «زوج جوزفين أو روز» وكان يشغل منصبًا قياديًا في أعلى هرم الدولة، وبأعجوبة نجت زوجته روز من المقصلة، رغم مساندتها الصريحة للنظام الملكي المنهار، وتم الاكتفاء بسجنها، هي التي وجدت نفسها بين عشية وضحاها أرملة وأمًا لطفلين. بعد فترة وجيزة، استخدمت روز شبكة علاقاتها المتعددة، وتمكنت من مغادرة السجن بعدما تم إتلاف وثيقة إصدار القرار باعتقالها، فعادت إلى ولديها على أمل عيش حياة هادئة بعيدة عن وحل السياسة، لكن القدر أعد لها مصيرًا مغايرًا، المصير الذي جعلها بطلة واحدة من أشهر قصص الحب المعقدة والملتهبة في العصر الحديث.
لكن جوزفين لم تخشَ نابليون بونابرت بكل سلطانه، وخانته مع ضابط من جيشه، “شارل هيولييت”، الذي كان يعمل ملازمًا وعشق جوزفين خلال حملة بونابرت على إيطاليا. وأيضًا الفيلم لم يفرد لتفاصيل هذه القصة حيزًا مناسبًا.
معركة روسيا وخسائر فادحة
استقرت الأمور لنابليون كما لم تستقر لأحد من قبله في أوروبا، فوزع ملكها بين إخوته وجعل السيادة على القارة أمرًا أسريًا خالصًا يُحظر على المجالس التنفيذية الحديث عنه، لكن بحلول عام 1810 كان حكم بونابرت يسلك طريقه إلى النهاية، مدفوعًا بكثرة الحملات العسكرية والخسائر الهائلة التي نتجت عنها.
وحينذاك أعلنت روسيا نقض حلفها مع فرنسا والتحالف مع النمسا، وفتحت مياهها أمام السفن البريطانية، وفي نهاية العام أعلن القيصر فرض ضرائب على السلع الفرنسية.
تسببت تلك الإجراءات في خنق فرنسا اقتصاديًا، وقرر نابليون غزو روسيا في شتاء 1812، فتوجه إليها على رأس جيش يضم ستمئة ألف جندي، لكن البرد القارس والثلوج حولت الحملة إلى كارثة قضى فيها أكثر من 90% من الجنود.
ثم في فبراير 1815، نزل نابليون بالشواطئ الفرنسية، وتوجه إلى باريس وسط دعمٍ منقطع النظير من السكان ومن حاميات الجيش التي انضمت إليه الواحدة تلو الأخرى. وفي ضوء الأخبار الواردة من الريف الفرنسي، وفرَّت الحكومة ليدخل بونابرت باريس في العشرين من مارس معلنًا عزمه تدشين معركة جديدة ضد الحلفاء.
سُميت هذه الفترة فترة المئة يوم نسبة إلى المدة الزمنية الفاصلة بين تاريخ دخول باريس وتاريخ الهزيمة في معركة واترلو. أين سكوت عن هذا؟
لجأ نابليون إلى الجيش البريطاني أملًا في الحصول على اللجوء السياسي، لكن البريطانيين نفوه إلى جزيرة سانت هيلانة بالسواحل الإفريقية، ليموت هناك في الخامس من مايو 1821.
أما جوزفين، فقد رحلت بهدوء عام 1814 متأثرة بمرض ألم بها، وانكسار قصة حب معقدة ألهبت مشاعر الكثير من الأدباء والباحثين عبر التاريخ، بدأت بعشق حقيقي ما زالت الرسائل شاهدة عليه إلى يومنا هذا، قبل أن تفسدها حسابات الربح والخسارة في لعبة الحكم التي لا مكان فيها لعاطفة أو حب!
أخطاء مخرج بريطاني عالمي
في المشهد الافتتاحي للفيلم يظهر بونابرت خلال إعدام الملكة ماري أنطوانيت، حيث كان لا يفترض وجوده في ذلك الوقت. يقول المؤرخ البروفيسور مايكل برويرز من جامعة أكسفورد: «لم يكن نابليون حاضرًا في عملية الإعدام، بل كان في مهمة عاجلة جنوبًا في ذلك الوقت».
ويقول في حوار أجرته معه منصة Time Out، إن ماري أنطوانيت التي تجسدها الممثلة الأيرلندية كاثرين والكر، ظهرت بشعر طويل وهو الأمر غير الحقيقي لأنها قامت بحلق شعرها بالكامل قبل إعدامها في ميدان الكونكورد في باريس.
ليست هذه الأخطاء التاريخية الوحيدة في الفيلم، بل إن مشهدًا آخر يصور جيش نابليون وهو يقصف الأهرامات بتلميح إلى أن مدفعية نابليون هشمت أنف أبي الهول. وهناك من المؤرخين المصريين من ينفي ذلك بشدة.
ثم نجد في مشهد بالفيلم أن نابليون يصرخ موجهًا غضبه للسفير البريطاني: «هل تعتقد أنك قاسٍ للغاية لأن لديك قوارب!». يقول برويرز: «من المؤسف أنه لم يقل هذه الكلمات».
في معركة الحصار نشاهد قذيفة تخترق صدر حصان نابليون. يقول برويرز: «لم أعثر قط على أي دليل على حدوث ذلك»، لقد نجا الحصان، لكن نابليون أصيب برصاصة في ساقه وطُعن بالحراب. وهذا لم يصوره الفيلم.
يصور الفيلم نابليون على أنه كان فحلًا جنسيًا عندما يلتقي جوزفين، وهنا يؤكد برويرز أن براعة نابليون الجنسية كانت مفقودة، على الأقل مع جوزفين. «نحن نعلم أنه كان عديم الخبرة الجنسية إلى حد ما عندما التقى بجوزفين، لأنه أخبر الناس بذلك وهذا موجود في مذكراته».
يقول برويرز أيضًا: «كانت أسنان جوزفين معدومة تقريبًا، نتيجة مضغ قصب السكر عندما كانت في منطقة البحر الكاريبي»، والفيلم يظهرها براقة جميلة ناصعة ومستوية.
في الفيلم، يجلس نابليون مع دوق ويلينغتون بعد معركة واترلو في مقصورة سفينة حربية كبيرة، وهما خصمان قديمان في ساحة المعركة يتبادلان المجاملات والاحترام المتبادل. إنه مشهد مؤثر بشكل غريب، ولكن للأسف، لم يحدث ذلك أبدًا. يقول المؤرخ: «لم يلتقِ ويلينغتون ونابليون قط».
ثم جنود فرنسيون يهتفون «تحيا فرنسا» بلهجة أميركية!
أين هم المستشارون التاريخيون الذين عملوا مع المخرج والمؤلف السيناريست؟ ولماذا أراد ريدلي سكوت أن يحقق فيلمه بهذه الكيفية المبهرة بصريًا والخاوية مضمونًا؟ ولماذا يكابر بأنه صنع فيلمًا عظيمًا؟