مشاعل عبدالله
يقوم الفن بشكل عام بمهام متعددة في المجتمع، من تلك المهام إعادة تعريف الحياة وتصورها. قد تبدو أكثر المهام أهمية هي قدرة الفنون على التعبير عن الوجود الإنساني ومعضلات هذا الوجود. تشكل نكبة 1948 مأساة إنسانية بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وثقتها النصوص الأدبية مثل رواية «الطنطورية» للكاتبة المصرية رضوى عاشور، و«باب الشمس» للكاتب اللبناني إلياس خوري، و«رجال الشمس» للفلسطيني غسان كنفاني ومواطنه إبراهيم نصر الذي أبحر في قضية النكبة لمساحة أوسع وأبعد فقدم لنا الملهاة الفلسطينية، وأيضًا الأعمال التلفزيونية مثل العمل الشهير للمخرج الراحل حاتم علي «التغريبة الفلسطينية». أما السينما فقدمت مجموعة من الأفلام السينمائية بدءًا بفيلم «فتاة من فلسطين»إخراج محمود ذو الفقار، مرورًا بفيلم المخرج الفلسطيني إيليا سليمان «الزمن الباقي». لكن كل هذا الإبداع الإنساني لا يشكل إلا جزءًا بسيطًا من صورة ذلك الحدث، فتهجير 700 ألف فلسطيني والذي يعادل قرابة نصف سكان فلسطين يخبئ الكثير من الحكايات المؤلمة التي لم تروَ بعد.
من تلك الحكايات التقطت المخرجة الأردنية من أصل فلسطيني نادين سلام حكاية «رضية»، تلك الحكاية التي سمعتها في طفولتها من خلال والدتها ورغبت بمشاركتنا إياها – «رضية» هي حكاية صديقة والدتها التي تشير بعض الأخبار المنشورة في الصحف أنها كانت تقيم في مخيم اليرموك في سوريا، ثم حولت دارين تلك الحكاية لفيلم ممتلئ ومتخم بالمشاعر. يبدأ الفيلم بأحلام لا تلبث أن تتحول إلى خيبة وخذلان وضياع وكأنها تتبع نصيحة ألفريد هيتشكوك لصناع السينما بأن يجعلوا المشاهد في حال عذاب قدر المستطاع. دارين في هذه التجربة السينمائية الأولى لها في مجال الأفلام الروائية الطويلة تنقلك بين مشاعر متعددة وتمنحك مساحة من الوقت مناسبة جدًا لأن تختبر هذه الأحاسيس وتستعد للانتقال منها بطريقة سلسة وناعمة.
تقدم دارين في فيلم «فرحة» الذي قامت فيه بكتابة السيناريو والإخراج وصدر عام 2021 وقامت عدة جهات أوروبية وعربية بإنتاج ودعم الفيلم وكان من ضمنها مهرجان البحر الأحمر من خلال صندوق البحر الأحمر، حكاية الصبية في أربعينيات القرن الماضي، والتي تحلم بمغادرة القرية وما تمثله من عالم ضيق بخيارات محدودة إلى المدينة لاستكمال تعليمها. كانت المدينة في نظر الفتاة هي باب لحياة رحبة، هناك تسكن صديقتها «فريدة» التي تلبس ملابس حديثة مقارنة بملابس فرحة القروية. تبدو اللمسة الأنثوية لدارين طاغية، فهي تؤسس للحكاية بطريقة حياكة الصوف، عقدة تلو الأخرى حتى تكتمل القطعة دون أن تغفل تفاصيل هامشية قد لا تضيف إلى الحبكة شيئًا، لكنها تضفي غلالة ناعمة على الحكاية فنرتبط عاطفيًا مع البطلة. تجول كاميرا دارين في القرية التي اختارتها في الأردن للتقارب الجغرافي بينها وبين قرى فلسطين، نرى الطرقات والناس والكتاب والشيخ الذي يقوم بتدريسها القرآن والقراءة.
تبدو فرحة فتاة طموحة ذات روح منطلقة ومختلفة عن صديقاتها، بينما يقمن هن باللهو تجلس فرحة على أرجوحة تتدلى من شجرة عتيقة تقرأ رواية أهدتها لها صديقتها «فريدة» وتتسلى بقطف التين والتهامه، تحلم بإكمال تعليمها والعودة لقريتها للقيام بتدريس البنات لتمنحهم فرصًا مساوية للذكور في قريتها. التين حاضر بقوة في هذا الفيلم كرمزية عن أرض الوطن، ففلسطين هي أرض التين والزيتون، واختيار التين كان يحمل تمردًا عن الصورة التي اختزلت فيها فلسطين بالزيتون أو البرتقال، وتحديدًا برتقال يافا. كان التين يرافق المشاهد التي كانت فرحة فيها تقرأ أو تتذكر التفاصيل المرتبطة برغبتها في العلم والقراءة. فالفاكهة هنا رمز المقدس والمدنس في ذات الوقت في الثقافات القديمة والأديان، فمثلًا أسطورة الرومان عن مؤسسي إمبراطوريتها تقول إن الذئبة حين أرضتعهم ارتاحت تحت شجرة التين، فأوراق التين العريضة ملائمة لفكرة الراحة والاختلاء والاختباء أيضًا. التوراة تشير إلى أن أوراق التين كانت رداء الستر لآدم وحواء بعد الخطيئة الأولى والخروج من الجنة. حتى ثعبان كليوبترا كان مختبئًا داخل سلة التين. هذه الفاكهة هي الغواية والهدف، لذا لا عجب أن أحد أمراء الفرس قرر غزو أثينا لأنه يحب تينها. أما تأويل الفاكهة ذهنيًا من قبل شاعر الأرض الفلسطينية محمود درويش، فهي انفراج الشفتين بأصبعين.
تخوض فرحة معارك صغيرة مع والدها لإقناعه بالذهاب إلى المدينة، يرضخ الأب لرغبة ابنته ويمنحها ورقة موافقته. هذا الحدث يكون بالتوازي مع انسحاب القوات البريطانية من القرى الفلسطينية وازدياد حضور الميليشيات اليهودية. يعقد أهالي القرية الآمال على مساعدة الجيوش العربية، وعدم رغبتهم بخوض أي حرب حتى وصول الدعم. انتصار فرحة وزغاريدها وأهازيج العرس التي غنتها ابتهاجًا بقرب ذهابها للمدينة تبدأ بالخفوت، فأصوات الانفجارات أقوى. يتزعزع السلام الذي كان يسود طرقات القرية فنرى الجميع في حالة هلع. يقرر أبو فرحة الانضمام لصفوف المقاومة فيضع فرحة في سيارة أبي صديقتها فريدة لتذهب معهم للمدينة هربًا مما يحدث. لا تحتمل فرحة قرار الانفصال عن والدها، فتعود له وسط الدمار والانفجارات، يقوم والدها بحبسها في مخزن المنزل خوفًا عليها، ويمنحها خنجرًا، ووعدها أنه سيعود، يغلق الباب ويرحل!
في هذه المرحلة وفرحة حبيسة المخزن تتجلى براعة وعبقرية كاميرا دارين، فالزوايا ضيقة ومساحات النور محدودة وفرحة حبيسة تعرف ماذا يحدث في الخارج من خلال الأصوات وفتحة صغيرة في الجدار. تمر الأيام ويزداد العطش وترويه فرحة من مؤنة البيت أو رشفة من المطر الذي يتساقط في الخارج، ينطفئ المصباح فتزداد عليها ظلمة الحياة وضيقها، في هذه الأوقات تبدو بارقة أمل لفرحة من خلال أصوات غرباء هاربين من قريتهم، مروا في طريقهم نحو وجهتهم بمنزلها، عائلة مكونة من أب وأم وطفلتين، تعاني الأم من آلام الولادة، تشهد بطلتنا عملية الولادة التي تبدو كأنها الخلاص، تمزق صرخة المولود الصمت وتزرع بقلب فرحة أملًا؛ لأن هذا الرجل سيكون قادرًا على تخليصها من هذا الانتظار والحبس. يؤذّن الأب في أذن مولوده الذي قرر تسميته محمدًا ويقيم الصلاة، تنادي فرحة أبا محمد ويدور بينهما حوار يقطعه صوت سيارة الجنود القادمة، يقوم أبو محمد بإخفاء عاذلته في سطح المنزل خوفًا من بطشهم، ويعد فرحة بإنقاذها بعد رحيلهم، يصل الجنود إلى المنزل يرافقهم شخص محلي يلبس غطاء يخفي ملامح وجهه، هذا الرجل يرشدهم على المنازل التي من الممكن أن تكون الأسلحة مخبأة فيها بشرط عدم إيذاء النساء والأطفال، نسمع صوت الرجل يخبرهم أن لا شيء في هذا المنزل، فهو منزل لا يحوي أي نشاط للمقاومة. ويقبضون على أبي محمد الذي يحاول إقناعهم أنه عابر، يقوم الجنود بتفتيش المكان فيكتشفون الأم والأطفال، تساق الأم وأطفالها إلى الباحة ويتم تفتيشها أمام زوجها وعين فرحة المتلصصة خلف الجدار، تبدو الأم ذات كبرياء. وتقدم لنا دارين صورة عن عنف المرأة تجاه مثيلتها التي تختلف عنها في الأيديولوجيا، تكون المجندة قاسية ذات لسان ساخر ولاذع، فهي تسخر من مفتاح المنزل الذي وجدتها مخبأ في جسد الأم، فتقول لها بكل عنجهية «خليه معك ذكرى».
يصدر القائد أمره بإعدام العائلة وترك المولود لأنه أصغر من أن يُهدر عليه الرصاص، يبدو المشهد صادمًا لفرحة، تموت طفولة فرحة مع أجساد العائلة، يطلب القائد من أحد الجنود قتل الطفل، يحاول الجندي سحق رأسه بحذائه فيتردد من قسوة الحدث، ثم يقرر خنقه فلا يستطيع، لأن هذا العنف أكبر من قدرته، فيكتفي برمي منديل على وجه الطفل ويغادر! نكتشف مع فرحة أن الخائن لم يكن إلا أبا صديقتها فريدة.
تتحول فرحة لسيدة تمارس أمومة مبتورة من خلف الباب، فهي تغني أغاني الأمهات لتنويم أطفالهم بدون احتضان وتقبيل، الليل يحيط بالمكان، الطفل يبكي، وفرحة تستلقي قرب الباب وتغني.
تنجح فرحة في الخروج من المخزن وترتشف 3 أكواب من الماء لتروي عطش الأيام الماضية، واكتفت عند الكأس الثالثة وكأنها تشرب مراحل حياتها من طفولة وشباب وتصل إلى الشيخوخة. فروح فرحة شابت لم يبقَ لديها حلم هي فقط ترغب في الخلاص، تتجه نحو شلال المياه الذي اعتادت أن تلعب فيه مع صديقاتها، تفك جدائلها وكأنها تفلت الطفولة من بين يديها، تقضم التين دون أن نراها تقطفه كما اعتدنا. تبدو ثمرة التين ذابلة، تجلس على الأرجوحة وتقبض بيدها على بقايا صفحة الإهداء، فهي خلفت الرواية وراءها مع ما كانت تقرأ بالإضافة إلى ذكرياتها في ذلك المنزل قبل حتى أن تعرف نهاية الرواية.. يبدو الطريق.. متعرجًا والقرية بعيدة، والأفق واسعًا بدون نهاية واضحة. نرى فرحة تغادر وحيدة بملابس متسخة.
فرحة ليست حكاية سمعتها دارين فقط، هي أحلام شعب كامل تم تهجيره. وللتأكيد على مدى أهمية السينما كأداة تعبير فعالة قادرة للوصول بطريقة جميلة لوجدان الشعوب وصرخة اعتراض تجاه الظلم، واجهت المخرجة مع فريق الإنتاج حربًا من قبل الصحافة اليهودية وذلك من خلال شن حملة إعلامية لمحاولة منع عرض الفيلم على منصة نتفليكس، وحرب إلكترونية للتأثير على تقييم الفيلم سلبيًا في موقع IMDB. لكن المخرجة واجهت هذه الحرب بشجاعة من خلال التصريحات وحضور المهرجانات وعرض الفيلم في أكثر من مهرجان وإنشاء حساب خاص في منصة إنستغرام للفيلم. يهتم هذا الحساب بكل ما كتب عن الفيلم وعرض صور للقرية قبل وبعد تجهيزها كمكان تصوير، وصور لأيام التصوير.
ينتقد البعض الفيلم أنه كان صورة محسنة عن الواقع، وأنه لم يقبض ولو على جزء بسيط من هذه المأساة الإنسانية، وأن الواقع أبشع من الدراما. وأجدني أنحاز لفكرة أن السينما لا يشترط أن تنقل الواقع بشكل دقيق، لكن من المهم للسينما أن تحدث التأثير في نفس المشاهد، وهذا ما استطاعت دارين فعله بجدارة.