د. أشرف راجح
عمدت «هوليوود» منذ مراحلها المبكرة الأولى إلى الاستعانة بالفنانين الأوروبيين الموهوبين وإغرائهم بالعمل في إطار مؤسساتها الضخمة أو «الاستديوهات»، تلك التي تتيح لهم تقديم إبداعاتهم، ولكن في إطار المنظومة المستقرة للقيم الترفيهية والاجتماعية الخاصة بصناعة السينما الأميركية. كذلك عملت على اقتباس وإعادة تقديم نماذج من السينما الغربية عامة «الفرنسية – الألمانية – الإيطالية»، أو الشرقية «الهندية – اليابانية – الصينية»، كمصدر متجدد لأفكارها على مر عقود دون توقف، هذا مع ضرورة أن تضع شخصيتها الأميركية وبصمتها المحلية النابعة من ثقافتها على ما تقتبسه. فنرى على سبيل المثال «الساموراي السبعة» رائعة المخرج الياباني الكبير «اكيرا كوروساوا» المنتجة عام 1954، تصبح فيلم «وسترن» شهيرًا وكلاسيكيًا هو «العظماء السبعة» يقدمه جون ستروجس عام 1960، والأمثلة أكثر من أن تحصى.
في عام 2004 قدم المخرج والمنتج والكاتب الفرنسي «لوك بيسون» المغرم بأفلام الخيال العلمي المستقبلية الممزوجة بالحركة، فيلمًا من تأليفه وإخراج «بيير موريل» يحمل عنوان «الضاحية 13 أو Banlieue 13»، وفيه يعرض في مستقبل قريب عام 2010 تفشي العنف والجريمة في إحدى الضواحي؛ حيث تقرر السلطات اتقاء لشرورهم إنشاء «جدار عازل» حولهم يفصلهم عن العاصمة باريس. تدور أحداث الفيلم في عالم الجريمة، حيث تمتلئ الشوارع بالعنف والمخدرات وتصل يد الفساد إلى الجميع، حيث لينو «ديفيد بيل» الذي يحاول أن يحيا حياةً شريفة إلا أنه عندما تُخطف أخته لولا من قبل طه أحد أباطرة المخدرات يضطر إلى العمل مع الشرطي السري داميان «سيريل رافاييلي» الذي يحاول في ذات الوقت إحباط مؤامرة لتدمير المدينة عن طريق قنبلة نيوترون بحوزة عصابة المخدرات، فيتعاونان من أجل إنقاذ الشقيقة والحفاظ على الأرواح، يخدعان زعيم العصابة طه الذي يقتله رجاله بعد أن تم سحب أرصدته وإفلاسه. يكتشفان أن المسؤول السياسي الفاسد كان يريد تفجير الحي الفقير عمدًا، فيفضحانه إعلاميًا، وينتهي الفيلم بنهاية واعدة بالأمل للحي المنبوذ.
«ليس المطلوب من كاتب السيناريو أن يعيد حكي القصة كما هي، بل عليه أن يعثر على شيء مختلف وجديد في نفس الحبكة»، هذا ما قاله أحد المنتجين لـلكاتب «بليك سنايدر» عندما طلب منه الأول أن يحكي له نفس الحبكة ولكن بطريقة مختلفة.
وننتقل بعد عشرة أعوام إلى فيلم «قصور الطوب Brick Mansions» من إنتاج عام 2014 وإخراج «كميل دلمار» والتأليف بالطبع لـ«لوك بيسون»، ومن بطولة النجم الهوليودي الراحل في ريعان الشباب «بول ووكر»، وهو آخر أفلام النجم الراحل الذي أكمل فيه جميع مشاهده قبل الحادث المؤلم الذي أودى بحياته. تدور أحداث الفيلم هذه المرة في مدينة ديترويت الأميركية في عالم الجريمة المنظمة أيضًا، وتخلي الدولة عن تلك المجتمعات العنيفة حيث ترفع يد القانون والتعليم والصحة وتتركها فريسة للعنف وتجارة الأسلحة والمخدرات، وتترك يد الفساد ترعى في قلب المجتمع، حيث الشرطي السري داميان «النجم بول ووكر» عضو في عصابة للمخدرات، يوقع بزعيمها في إطار خطته الشخصية للإيقاع بأقطاب تجارة المخدرات في المدينة. بينما لينو «ديفيد بيل» الذي يحاول أن يحيا حياةً شريفة ويواجه تجار المخدرات، ولكنه يسجن بعد قتله لشرطي فاسد. إلا أنه عندما تُخطف صديقته «وليس أخته» من قبل أحد أباطرة المخدرات ترميلين يضطر إلى العمل مع الشرطي السري داميان «النجم بول ووكر» الذي يحاول في ذات الوقت إحباط مؤامرة لتدمير المدينة عن طريق قنبلة نيوترونية سرقتها تلك العصابة والإيقاع بترميلين الذي يعتقد أنه المسؤول عن مصرع والده الشرطي السابق. تحدث تحولات كبرى، حيث يرفض ترميلين تفجير القنبلة ويكشف لداميان أن من قتل والده هم بعض عناصر فاسدة من الشرطة، ويتعاون ثلاثتهم ومن خلفهم «هبة شعبية كبيرة» من سكان الحي المغضوب عليه في فضح المؤامرة إعلاميًا والقبض على المسؤول المتآمر وهو محافظ المدينة شخصيًا. يُزال «جدار الفصل العنصري» ويعاد افتتاح المدارس والمستشفيات وأقسام الشرطة، بل ويرشح ترميلين نفسه في الانتخابات التالية كممثل لصوت الشعب وحقوقه.
وإذا تأملنا في أبرز التغييرات الدرامية التي حدثت بين الفيلمين شبه المتطابقين ظاهريًا، فسندرك الكثير من خواص السينما الأميركية في هذا الفيلم ذي الإنتاج الكندي، ولكن بتوزيع موجه للسوق الأميركية. فبينما يبدأ الفيلم الفرنسي بفاصل مهول من الحركة لهروب ليو من عصابة المخدرات، في تحية واضحة لبطل أفلام الحركة الأسطوري «بروس لي» وأسلوبه في القتال، حتى إننا نرى ملصقًا واضحًا يحمل صورته في مشهد قرب منتصف الفيلم. نجد الفيلم «الأميركي» ينطلق من جلسة المحافظ مع رجال الأعمال الذي يشير لهم بمشروعه للتخلص من الحي الفقير وتحويله إلى سكن راقٍ للصفوة، وأنه «سيعتني» بالسكان الأصليين، فيحتفلون بذلك الأمر دون استيضاحه كثيرًا في الكيفية التي سيتولى بها «العناية» بهؤلاء السكان الأصليين، في تأسيس واضح لأبعاد قضية الفيلم، قبل أن ينطلق إلى ذات الفاصل الحركي المثير. ثانيًا يعمد إلى تقسيم شخصية الشرير الرئيسي أو الخصم «زعيم العصابة» إلى شخصيتين في الأحداث. ففي الفيلم الفرنسي لا يوجد سوى «طه» الشخصية «السيكوباتية»، الذي يقضي وقته في استنشاق المخدرات والقتل. بينما في الفيلم الأميركي، الزعيم ترميلين رجل أكثر توازنًا يقضي أوقاته في طهو وصفات والدته، إنه رجل أعمال كما يسمى نفسه في البدايات، ثم يصبح بعد ذلك رجل سياسة. أما الجانب «السيكوباتي»، فيتركه السيناريو إلى شخصية مضافة هي نصفه الآخر عشيقته الحاقدة رازا، التي يستغلها الفيلم في صنع معارك نسائية جذابة للمشاهدين مع لولا، ثم يجعلها تواجه ترميلين في النهاية وتكاد تقتله حين يرفض إطلاق القنبلة على الأبرياء، قبل أن تصرعها لولا؛ ليأتي التحول الأخير في شخصية ترميلين، وقيادته للهبة الشعبية منطقيًا. إنه «الحلم الأمريكي» الذي يستطيع أن يجعل مجرم عتيد يتحول إلى سياسي شعبي، ونتقبل نحن كمشاهدين ذلك الأمر.
وفي النهاية يبقى كلا الفيلمين المتشابهين، فيلمي حركة يحملان موضوعًا اجتماعيًا وسياسيًا هامًا، نستطيع أن نرصد من خلالهما، ومن خلال أعمال أخرى كثيرة مماثلة في العقود الأخيرة حراك تلك الفكرة الكابوسية التي تحذر من تصاعد الرأسمالية المفرطة النهمة وغير الإنسانية، التي تجعل بشرًا يضعون بشرًا مثلهم في سجون مفتوحة أو مغلقة على الفقر والجهل والمرض، معتمدين على جدران العزل العنصري البغيض.