سلطان القثامي
جرت العادة أن تفرز التحولات الاجتماعية عامة تهافتًا ملحوظًا بين الكتّاب نحو قياس التباين بين شكلين أو أكثر من المجتمع نفسه. وفي مجتمعنا، وبحكم التجربة المحدودة للسينما وحركتها نحو تصوير هذا التغير الاجتماعي، أخذ مجموعة من صانعي الأفلام في تتبع هذا التحول طوال حقبة زمنية معينة في تاريخ المجتمع. وتشاركت هذه المشاريع السينمائية مقاربات وخطابات متفرقة مقصدها الرئيسي نقد الانغلاق. وهنا سأذكر، على سبيل المثال، كيف وظّف المخرج محمود صباغ في هذا الفيلم أدواته النقدية لتحقيق هدفه. يتمحور فيلم «بركة يقابل بركة» حول حوار فني بين شخصين من جنسين وطبقتين مختلفتين لكنهما يحملان نفس الاسم. تحاول كل شخصية على حدة الانفراد بمنظورها الخاص عن الحياة، ولكن يعيق حريتها في التعبير والسلوك قيم اجتماعية يقف خلفها تسيّد المنطق الديني في المجتمع السعودي. في هذا الحوار الفني الذي يرتكز عليه الفيلم تسأل «بركة»، وهي فتاة يتيمة تبنّتها عائلة ثرية، عن ماهية الفن. فيجيبها «بركة» وهو موظف ميسور الحال ومن عائلة فقيرة أن ما يحدد الفن هو ما يعتقده الحشود. تحاول الفتاة بركة تجنب الاستغلال الاجتماعي لكنها تقع فيه. وكما عهدنا في المجتمعات الحديثة، كل الأشياء يمكن استغلالها لهدف مادي، والفن ليس بمنأى عن هذه الحقيقة. حتى الحرية أو الرغبة في الاعتدال، كردات فعل تجاه التطرف، يمكن أن تؤدي إلى تشويه وتشييء القيم الإنسانية الجميلة. والتشييء كما يصفه لوكاش يغرّب الأفراد عن هوياتهم الأصلية. فينطبع على وعي الإنسان كاملاً كما لو كانت صفاته وقدراته ليست جزءًا من شخصيته. ولكنها تصبح أشياء يمكن امتلاكها ونزعها مثل أي شيء في العالم الخارجي. وليس لها شكل يحكم العلاقات الإنسانية، ثم تبدأ هذه الصفات الجسدية والنفسية في التلاشي مع تزايد عملية التشييء. فنرى، على سبيل المثال، كيف يتحول الزواج عند العوائل الأرستقراطية إلى مؤسسة تخدم مصالح العائلتين دون اكتراث لرغبات الأبناء من الطرفين وحرياتهم في الاختيار.
اشتهرت الفتاة بركة بسبب بثها المتواصل عبر منصة التواصل الاجتماعي «إنستغرام»، لكنها في كل مرة تسجل ظهورها لا تستطيع كشف وجهها للكاميرا بناءً على رغبة والدتها التي تتحكم فيما تقول وتفعل ابنتها. لكن تركيز الكاميرا على الجسد فقط ينبئ عن استغلال مضاعف للمرأة. من جهة، هو إقحامها في عملية إعادة الإنتاج الرأسمالي عبر الوسائل الحديثة، لتحقيق أكبر مكاسب مادية من ظهور فتاة عبر مشاهد في الشاشة، كظاهرة جاذبة وغير مألوفة في مجتمع محافظ. ومن جهة أخرى، هو تسليع لها، يحدث من خلال إخفاء وجهها والتعريف عنها بمزاياها الجسدية فقط، وجعلها عرضة للنظرة والعقلية الذكورية المسيطرة في المجتمع. ما بين الرأسمالية والذكورية، تحاول بركة التحرر من هذه القيود عبر طرق مختلفة منها ممارسة الفن والحرية الاجتماعية في الاختيار بشكل عام. لكن يظهر الفن كسلاح ذي حدين. فيمكن للفن أن يحررنا وأن يكبلنا في الوقت نفسه. ربما هدف الكاتب من حواره الفني اختبار قدرات الشخصيات على فهم الفن كأداة لنقد الواقع الاجتماعي وتغييره. لذلك يعتقد الناقد الألماني فريدرك نيتشه أن الفن حافز للحياة، وعادةً ما يعبّر عن قيم ومعتقدات راسخة في المجتمع، ولو أُخْليَ الفن من هذه القيم أو المعتقدات لأصبح بلا غاية ومعنى. لذا، فإن مقولة «الفن لأجل الفن» بالنسبة لنيتشه لا تبدو مناسبة. فلا يوجد فن بلا مبتغى. وهذا الشغف مع الفن كممارسة للحرية يعكس تناغم الشخصيات الرئيسية مع كاتب النص. لذلك من الطبيعي أن يرتكز تحليل الفيلم نقديًا على دراسته كشكل من أشكال الفنون التي تسعى للتعبير عن قيمها الاجتماعية. وبما أن السينما، وهذا الفيلم خاصة، لا يمكن فصلها عن ثقافة الصورة في المجتمع الرأسمالي، ستكمن الإشكالية هنا في أن الصورة التي تسعى لتمثيل واقع اجتماعي ونقده قد تخدّر بالمقابل رغبات الأفراد في تحسين أوضاع مجتمعاتهم. فيصبح التركيز على إنتاج الصورة واستهلاكها عاملاً في انشغالهم عن مهماتهم الاجتماعية الأساسية. فتُستَبدَل حرية الاختيار والتعبير بحرية الإنتاج والاستهلاك. لكن هذا الأمر الذي لم يتضح كليًا في «بركة يقابل بركة» لعدم الإسهاب في توجهات الشخصيتين في تغيير ظروفهم. ولكون هذه الرغبات خافتة ويتخللها الخوف لم تظهر أنشطة التغيير مكتملة مع نهاية الفيلم. بالمختصر، ساهم الفيلم في دعم الإنتاج السينمائي وفي تصوير مجتمعات ما قبل وبعد الصحوة، لكنه لم يفنّد دينامية الوعي التاريخي في السعودية والكيفية التي تحول بها المجتمع من مرحلة لأخرى.