د. أشرف راجح
موضوع الثالوث الغرامي التقليدي في الدراما «رجلين وامرأة، أو امرأتين ورجل» من الموضوعات الأثيرة للأفلام العاطفية لما تتيحه من قدرات على توليد صراع مشتعل لا ينفد وقوده، يستمر إلى أن يُحسم بالاختيار بين أمرين. وللحالة الأولى «امرأة بين رجلين» يأتي النموذج الأبرز في رواية “آنا كارنينا” لتولستوي التي قدم عنها العديد والعديد من الأفلام، كان من أشهرها في السينما العربية فيلم «نهر الحب» لعز الدين ذو الفقار. وبالطبع القصة تبعًا لتقاليد الرومانسية الخالصة تنتهي بموت البطلة بعد أن فقدت الحبيب والأسرة معًا. ولكن بعيدًا عن الحلول التراجيدية دعونا نطالع نموذجًا كلاسيكيًا هو الفيلم البريطاني «لقاء عابر أو Brief Encounter» لعام 1945 عن قصة للروائي الشهير «نويل كوارد»، وسيناريو وحوار «أنتوني هافلوك ألان»، والإخراج للكبير «ديفيد لين»؛ ويدور حول «لورا» الزوجة وربة المنزل التي اعتادت كل خميس ركوب القطار من محطة ملفورد للتسوق، ودخول السينما. تلتقي مصادفة بالطبيب «أليك» المتزوج أيضًا في بوفيه المحطة، والذي يزيل لها شيئًا دخل بعينها، ثم يتركها ويستقل قطاره، وفي الأسابيع التالية يلتقيان ويتصادقان، وتتطور العلاقة بينهما سريعًا ليقعا في الحب، والمشكلة بالطبع أن كليهما متزوج، وفي النهاية يقتنع كل طرف منهما متألمًا بالعودة إلى حياته الأولى. ومن الممكن أن نشاهد نسخة مصرية من الفيلم دون أي اختلاف في فيلم «شيء في حياتي» (1966) سيناريو وحوار يوسف السباعي وإخراج هنري بركات. إذ تعيش «عايدة» مع زوجها الذي يكبرها سنًا حياة هادئة ومستقرة قبل أن تقابل في محطة القطار بالإسكندرية الطبيب الشاب «أحمد» الذي يبدو متدفقًا بالشباب، وترى فيه شخصًا مختلفًا عن زوجها. تتعدد اللقاءات فيما بينهما ويقع كل منهما بحب الآخر، لتشعر عايدة بأنها تخون زوجها، وتقع في حيرة كبيرة ما بين الحب أو الحياة المستقرة. يطلب منها أحمد أن تذهب معه إلى شقة أحد زملائه، وهناك يدخل الصديق وينظر إلى عايدة نظرة تحس منها أنها عاهرة، مما يزيد من إحساسها بالذنب، أن أحمد متزوج مثلها، وأن هذه العلاقة محكوم عليها بالفشل. يقرر الاثنان في لحظة صدق أن ينفصلا. وفي نفس المكان الذي جمعهما، يقرر أحمد السفر إلى الخارج مع أسرته للعمل في الجزائر، وتركب عايدة القطار، وتعود إلى زوجها وأسرتها لتحاول أن تنسى قصة الحب العابرة. والفيلمان شبه المتطابقين يختتمان بعودة الشخصيات إلى المسار الحياتي الذي كان.
وعلى الجانب الموازي نجد حلاً آخر في فيلم «لقاء في الغروب» (1960) تأليف وإخراج سعد عرفة. وتدور أحداث القصة حول زوجين سعيدين ومعهما ابنهما الوحيد، في المصيف تتقابل الزوجة «آمال» مع «شريف» الذي كانت على علاقة به، وقد تواعدا على الزواج من قبل، يلاحقها فتصده، إلا أنه لا يكف عن ملاحقتها، فتستسلم له، وتقابله، ويتبعها في إحدى المرات ابنها «ممدوح» ويكتشف علاقتها بـ«شريف». ينقذها «شريف» من الغرق، وتكون هذه بداية التعارف بينه وبين العائلة. يذهب «شريف» مع الزوج «عزت» في رحلة صيد، لكن «عزت» يسقط عرضًا في البحر، يظن الطفل أن «شريفًا» أغرق والده فيهرب من المنزل. اعتبر ممدوح أن أمه و«عشيقها» شريف قد قتلا أباه، فترك البيت هائمًا على وجهه، وبحثت آمال عن ابنها في كل مكان وحملت شريف المسؤولية عن فقد ابنها، وطلبت منه العثور عليه. بحث شريف عن ممدوح حتى وجده بالشاطئ، وتحمل ثورته عليه، واحتوى غضبه. وبعد أن استمع صدفة لحوار الأم وشريف اقتنع أن أمه لا دخل لها بموت أبيه وأن موته قضاء وقدر، فرحب ممدوح بشريف زوجًا لأمه. هذه النهاية «السعيدة» للموقف المحتدم لم تتم إلا بأقدار «سعيدة» أتاحت موت الزوج عرضًا قبل ذلك، ومن ثم استماع الابن إلى حوار «البراءة» عرضًا كذلك، مما أتاح الحل الميلودرامي «السعيد» للحبيبين.
والآن نصل إلى الفيلم الأميركي الحديث «لغز أو Puzzle» لعام (2018) من ﺗﺄﻟﻴﻒ أورين موفرمان وناتالي وود، وإخراج مارك تورتيلتوب؛ لنجد الأمور لا تسير بهذه الترتيبات «السعيدة». الفيلم يدور حول «آجنس» سيدة بيت وأم تقليدية من الضواحي، تحيا مع زوجها «لوي» وشابين هما ولداهما. يأتي لها لغز «تركيب قطع» كهدية في عيد ميلادها، تكوّن من خلاله خريطة كندا، فيسألها ابنها: ألم تكوني تحلمين بالسفر إلى هناك قديمًا، فتبتسم. تبدأ في تركيبه، لتتلمس لديها شغفًا كبيرًا في حل الألغاز وألعاب تركيب القطع، مما يعطلها عن أعمال المنزل، ولكنه أيضًا يُدخلها في عالم جديد، حيث تتخذ حياتها مسارات لم تكن تتخيلها أبدًا. تكتشف موهبتها الخارقة، تدخل في شراكة لعب مع زميل «روبرت» الذي هو بطل سابق في اللعبة، ترك حياته المهنية كمخترع بعد صدمة هجر زوجته له، واقتنع أن الحياة عشوائية لا نجد لها نظامًا أو اكتمالاً إلا مع اكتمال صورة اللغز. يبدآن في التدريب للفوز بالجائزة الوطنية، التي تؤهلهما للمشاركة في المسابقة العالمية في بروكسل. إنه “لغز” الحياة الذي يتجمع قطعة وراء قطعة، لتجد نفسها فجأة قد وقعت في حب الزميل الذي تلعب معه، وتنفر من الزوج الذكوري الفظ بعض الشيء، الذي يصدر الأصوات ليلاً أثناء نومه. تقيم علاقة مع «روبرت» زميل اللعبة. ولكنها تختنق بشعور الإثم وترديد الأكاذيب لتغطية غيابها. تعترف لزوجها، الذي ينهار باكيًا. وفي نموذج للغرس والحصاد للتفاصيل، نرى الطبق الذي كسر في عيد ميلادها وحاولت جمعه ولصقه عدا «قطعة مفقودة»، والقطعة الناقصة منه تدخل في قدمها. زوجها «لوي» بكل حنان ينزعها. تحتضنه وترحل. وبعدما فازا بالجائزة الوطنية، تعتذر تليفونيًا عن السفر مع حبيبها «روبرت» إلى بروكسل، وتقرر السفر وحدها إلى مونتريال «كندا»، كأنها تبحث عن حلمها القديم أو ربما عن ذاتها، على الطريق الثالث!
إن مقارنة المعالجات وتطورها عبر الزمن، وكيف تعاملت الدراما مع صورة «البطلة» التي قررت في لحظة مفصلية أن تبحث عن القطعة المفقودة في حياتها التي تبدو مستقرة أو هادئة أو حتى روتينية، باعتبارها شخصية تستحق ما تناله سواء بالحد الأقصى من العقاب، أو بالآلام المبرحة، في الميلودراما، وبين المعالجات الأحدث التي وجدت أن هذا أمر قد يقود الإنسان كـ«إنسان» إلى طرح الأسئلة الوجودية الكبرى حول حياته وكينونته، بطريقة تبدو لافتة. بحيث يقودنا تحليل هذا الموضوع أيضًا إلى تأمل العديد من المنطلقات الفكرية حول ما يسمى بـ«الصوابية الجندرية» كذلك، تلك التي أصبحت من الدعائم الأساسية لـ«السينما الأميركية» المعاصرة بصورة أو بأخرى.