واسيني الأعرج
تمثل اليوم سينما المؤلف مرتبة حيوية في مجال الإنتاج السينمائي، إذ هي النوع الذي يثق فيه المشاهد المتبصر المحب للسينما. يدرك من خلال الكاستينغ أن الفيلم الذي هو بصدد مشاهدته، أساسه نص روائي كبير وكاتب متمرس، أي شخص جعل من السرد الكتابي مهنته في الحياة.
وكثيراً ما أحيط هذا الموضوع بالكثير من الأسئلة المتناقضة. سؤال يسبق هذه الملاحظات: هل هناك ضرورة لانتقال بعض النصوص من عالمها اللغوي إلى عالم سيمياء الصورة؟ ما جدوى ذلك وما الفائدة الفنية والاجتماعية المرجوة من جهد مشترك كهذا؟ فعالم سينما المؤلف ليست أمراً سهلاً. يوم رأى الشاعر والكاتب والموسيقي بوريس فيان العرض الشرفي للفيلم المأخوذ من روايته، احتج وخرج. لم يكن أفق انتظاره متطابقاً أو قريباً مع ما فعله المخرج. طبيعي. هناك صعوبات جمة تحكم هذا النوع من الخيارات الفنية، وهي نابعة أيضاً من عمق الجندر المحكوم بخاصيات قد تختلف بين السينما والأدب. فما يمكن قوله روائياً قد تعجز السينما عن التعبير عنه حتى وإن لا توجد المستحيلات، كل شيء ممكن سينمائياً. وهذا يحتم وجود سلسلة من المسبقات والعمليات الأولية التي يشتغل عليها مقتبس النص وميوله من نص مقروء إلى نص مرئي. وليس شرطاً طبعاً أن يكون المرئي مجرد إعادة إنتاج للمنتَج لغوياً وكأن السينمائي مجرد مرآة عاكسة وليس خصوصية وقراءة ووجهة نظر. في كل الأحوال، هناك مسؤولية عظيمة في عمليات التحويل. ولهذا، إذا كان إشراك الكاتب في عملية التحويل، وليس في الأمر أية ضرورة، فهو مستحسن من أجل تذليل بعض الصعوبات التقنية فقط.
عملية التحويل هي في النهاية رؤية المخرج، أي وجهة نظره في النص وتجديدها سينمائياً. قد لا تكون، ولن تكون وجهة نظر الكاتب أبداً، وإلا فلا فعل سينيمائي، وقد تكون هذه الرؤية أبسط أو أعمق، حسب الاستراتيجيات التي تتحكم في عمليات التمويل. يجب ألا يُنظر للمخرج، الذي كثيراً ما يكون هو صاحب السيناريو، نظرة الناقل والتحويلي فقط من المشهدية الوصفية اللغوية إلى مشهدية الصورة، فالوضع أعمق من هذا كله، مثلاً كيف قرأ هذا المخرج أو ذاك رواية الكاتب؟ لماذا اختارها هي بالذات ولم يختر غيرها؟ وما قد تكون خياراته مخالفة للكاتب. في حين كانت استراتيجية أمبيرتو إيكو في (اسم الوردة) تتعلق بالكنيسة وخديعاتها وخلفياتها الإجرامية، جاءت خيارات السينمائي مختلفة جوهرياً؛ لم تعد الكنيسة ملجأ لذكر الله ولكن مساحة لممارسة الجريمة، كيف انتقل الدين من القرون الوسطى إلى زماننا كآلة مناقضاً لجوهره وخيارات الدين الإنسانية.
الرؤية الإخراجية والمعالجة الدرامية لم تمس المؤدى والجوهر الإنساني الذي أراده أمبيرتو إيكو من وراء روايته الكبيرة (اسم الوردة) التي أصبحت اليوم جزءاً مهماً من الكلاسيكيات الإنسانية. لا يوجد النص المقدس بالمعنى السينمائي، توجد تجربة كتابية كبيرة تواجهها تجربة إنسانية أخرى تتقاطع معها وتختلف. الرؤية الإخراجية تتحدد من هذا التعالق الفني الذي يهدف في النهاية إلى تقديم فيلم في نفس أهمية وإنسانية الرواية. كانت التجربة العشقية التي عاشها رجل الدين مع الوردة هي جزء من مسار الفيلم في مواجهة قتلة الكنيسة في القرون الوسطى. أكثر من ذلك، استقى الفيلم تسميته (اسم الوردة) في النهاية، من هذه التجربة الإنسانية الكبيرة.
أي تحجيم للرؤية الإخراجية هي بالضرورة قتل للفيلم، لكن في الوقت نفسه يجب أن يظل الفيلم مرتبطاً بالقصة التي حكاها الكاتب، وهذا الوجه الآخر نفسه للفعل الاقتباسي حتى ولو كان حراً، وإلا ما مبرر وضع اسم الرواية على الفيلم، أو التأكيد على اقتباسها من نص روائي لكاتب بعينه؟
لا نستغرب اليوم من كون واحد من خمسة أفلام عالمية مأخوذاً من رواية أو من نص سردي، وهذا عدد كبير إذا ما قيس بالأفلام التي تنتج سنوياً عبر العالم. فالنص الروائي ركيزة أساسية لسينما المؤلف، بناء ومعماراً ومكونات سردية، تجعل الفيلم المرشح للسينما مرئياً حتى قبل عميلة التحويل. وتتحدد من خلال الكتاب أيضاً عمليات المعالجة الدرامية والبتر الممكن. الزمن والمكان يمكن لمسهما بكل تلويناتهما وما يمكن إضافته عليهما.
قراءة النص سينيمائياً تلعب دوراً تأهيلياً لكل العناصر السينمائية داخل الرواية التي رآها الكاتب مهمة وبنى عليها معمار الرواية. أي أن السينمائي يشتغل على عالم أصبح يراه ويلمسه في كل تجلياته من خلال النص الروائي ويبني عليه فرضياته الفنية. حتى على مستوى الشخصيات، فهو يرى أيضاً تلك التي يمكنه متابعتها سينمائياً، وتلك التي تصلح في الرواية لكنها قد تتحول إلى زوائد ضاغطة على حركية الفيلم. ولنا في بعض التجارب الروائية العالمية خير نموذج يجيب عن هذه الأسئلة المعقدة. نعم، توجد حالات يرتفع فيها المخرج بالنص عالياً، مثل (اسم الوردة)، وحالات أخرى يتم فيها النزول بالنص إلى الحضيض حيث تكون المعالجة السينمائية ضعيفة، مثل البيست سيلر لكتاب (ملينيوم) لستيغ لارسن الذي تحول إلى فيلم بوليسي بعدما تمت تنقيته من الجوهر الأساسي الذي أراده الكاتب المناضل لارسن ضد العنصرية وفوبيا الغريب أو المهاجر، إذ وضع دول أوروبا الشمالية، بالخصوص السويد والدانمارك، تحت المجهر النقدي الذي هز الكثير من اليقينيات الغربية. أوروبا الشمالية المثالية في نظمها اليوم قد تعاملت مع النازية وصمتت على الهولوكوست وتخترقها كل الأمراض العصرية كما بقية أوروبا، من مخدرات وجريمة وفقر واعتداءات جنسية وغيرها. على الرغم من اجتهادات المخرج في تعامله مع النص، لم يرتفع بالرؤية الإخراجية إلى متطلبات النص وتجاوزها كما في كل الأفلام الناجحة.
المصدر: القدس العربي