عبدالله الزيد
في أحد أيام عام 1959م، كان اجتماع للمخرجين: نيلسون بيريرا، وجلوبر روشا، وباولو سيزار، بمنزلة شهادة ميلاد لموجة تجديدية لسينما برازيلية ثائرة، مقابل سطوة السينما التجارية الطاغية حينها. وليس ببعيد عن تلك الفترة تَشارك مجموعة من السينمائيين الفرنسيين كـ:ترافوا، وجودار، ورمور، النهوض بموجة فرنسية؛ لكسر عظم نمطية الصناعة والسرد التقليديين، اللذين جثوَا على صدور نقاد الدفاتر الفرنسية في الستينيات. ومثل هذه الثورات الفنية هي حالة شبه ثابتة في تاريخ الحركة السينمائية العالمية؛ منذ اجتهادات المخرج الإسباني بونويل لتقديم نمط من السينما السوريالية الحالمة ضد شكل من السينما الواقعية مطلع القرن الماضي، لتعيد – بعد ذلك – الواقعية مكانتها المرموقة في ثوب إيطالي أنيق ومختلف ومتطور،«ولا دائم إلا وجهه سبحانه».
عالم الاجتماع الألماني كارل منهايم، تحدث في كتابه: «الإيدلوجيا والطوبيا» (1929م) عن نظرية اجتماعية يمكن تلخيصها بفكرة مفادها، أنَّ التاريخ البشري يقوم على حالة صراع بين فئتين: إيديولوجيون يسعون للمحافظة على الوضع القائم خوفًا من التغيير الذي قد يهز عرش مصالحهم، وبالمقابل طوباويون يقاتلون من أجل التجديد وكسر هيمنة القديم المتكلس!
والتاريخ يقول لنا «بالفم المليان» إنَّ تقلبات الأيام تثبت لنا استحالة الثبات، وصعوبة المحافظة على الوضع القائم دون تغيير، وكل جديد سيصبح لا محالة يومًا ما قديمًا يقبل التغيير والتجريب.. ولذا، مسألة أن نحتكر شكلاً من السينما بأنها «مطلوبة» أو «جماهيرية» أو «سينما مهرجانات».. وأن هذا هو الصح وغيره الخطأ…إلخ من أشكال القولبة والتعليب الفكري والتسويقي، وتحنيط الإبداع، هي سباحة ضد تيار النواميس الكونية؛ ومصيرها إلى الفشل الفني والخسران المبين. «عفوًا أنا ما قلت شيء، التاريخ هو الي يقول!.. يعني التاريخ يكذب؟!».
وأنا أكتب هذا الكلام يحضرني نقاش يفتح في الوسط الفني السعودي دائمًا فلا يكاد يغلق! عن أنَّ السينما يجب أن تكون كذا.. والشُبَّاك عاوز كذا.. كلها أفكار متاحة ومقبولة ولا اعتراض عليها. ولكن، والكلام هنا موجه لمن يشعر بالغربة من رفض النمط السائد هذه الأيام لأعماله السينمائية وأفكاره الإخراجية الغريبة! أقول له لا تيأس أيها الفنان الغريب، فأنت على ثغر من ثغور الفن والتاريخ.. أثبت بارك الله فيك، وإياك أن تحبط من قلة المريدين.
أعيد وأكرر.. حديثي هذا لمن يعي ما يفعله من تجديد فني، وأسلوبية إخراجية؛ وبالتأكيد لا أقصد مطلقًا المقلدين والمستنسخين، وما أكثرهم هذه الأيام! إنما كلامي هنا موجه لمن يعي ما يقدم في السينما المحلية والعالمية بعمق، ثم يقفز فوق السائد عبر رؤية فكرية وفنية تجديدية؛ يعرف من خلالها ما يريد أن يصل إليه، ولما يريد الوصول إليه. أمَّا بقية المشتغلين والمقلدين و«سلاقين» البيض.. أقول لهم مع كل التقدير والاحترام استمروا واشتغلوا، والساحة التي شالت أمثالكم قرنًا من الزمان، قادرة – بإذن الله – على تحملكم قرونًا، فأنتم أيضًا من نواميس التغير والفساد.. والله المستعان.