إيمان الخطاف
لطالما ردد الفنانون مقولة «إضحاك الجمهور مسألة صعبة»؛ إذ يتفق الوسط السينمائي بالإجماع على أن انتزاع ضحكة الجمهور، مهمة ليست بالهينة، وإن بدت في ظاهرها لا تتطلب أكثر من ملابس صاخبة، ونظرات بلهاء، وعبارات ساخرة؛ إلا أننا بلغة سينما اليوم نستطيع التفريق بين فيلم كوميدي تمكَّن من صدح أصوات القهقهة في صالة السينما، وآخر «بثر» يصيب المشاهد بحرقة في المعدة.
ولأن الكوميديا ما زالت مهيمنة على الأفلام السعودية، فإن «الضحك» هي الكلمة السريَّة التي ترفع عملًا وتهبط بآخر.. وأثناء كتابة مقالي هذا يتصدر فيلمان سعوديان قائمة الأفلام العشرة الأكثر مشاهدة على منصة «نتفليكس» في السعودية ودول أخرى مجاورة، وهما «راس براس» و«سطَّار». أي أن الأمر تعدى السينما المحلية إلى منصات العرض العالمية، لتصدّر أفلامنا شكلاً جديدًا للضحك السينمائي، برفقة شريط الترجمة لمن لا يستطيع فهم سياق النكتة، بما يُسهل للمشاهد الصيني أو الإيطالي أو المكسيكي، الاندماج مع الفيلم، والضحك بين مشهد وآخر.
وحتى لا أبتعد جغرافيًا بصورة كبيرة، فمن يتصفَّح مقاطع «يوتيوب» يجد يوتيوبرز الأفلام يقدمون تحليلاتهم ومراجعتهم لهذين الفيلمين بكل اللهجات، من المصرية واللبنانية والمغربية وغيرها.. على الرغم من أن الفيلمين هما بلهجة سعودية مغرقة بالمحليّة، وبكلمات تضرب في قاع الشارع السعودي؛ إلا أن شريط الترجمة وولع المشاهدين باكتشاف لون سينمائي جديد في الأفلام السعودية، جعل من مهمة فهم وهضم هذه الأفلام يسيرًا للغاية.
ولأن الممثل السعودي عبدالعزيز الشهري هو القاسم المشترك في هذين الفلمين، بوجه مليء بالتعابير، وأداء عفوي بعيد عن الافتعال؛ فإن المشاهد يشعر وكأنه يرى إنسانًا يشبه شخصًا ما يعرفه، من الشاب «علي هوقن» في «سطَّار» ذي اللسان الثقيل، والنظرات المندهشة، وحلاقة «السكسوكة» المتناسبة مع حقبة التسعينيات من القرن الماضي التي يغرق بها مع عوالم المصارعين الذين أفل نجمهم.
وصولًا إلى شخصية «فياض» في «راس براس»، الفتى المتمرد الذي يقفز من ورطة إلى أخرى أشد منها، غير مكترث بأي شيء. وفي كلتا الشخصيتين، فإن إتقان الشهري لكركتر الشاب «العربجي» النزق، جعل من قدرته على إضحاك الجمهور مسألة تلقائية، لا تتطلب منه مجهودًا كبيرًا.
أمَّا إبراهيم الحجاج، فله لون خاص في الكوميديا، بوجه بريء مليء بالمسكنة، ونظرات خيبة الأمل التي تدفع الجمهور دائمًا للتعاطف معه؛ يضحك لضحكه ويحزن لحزنه، وهو الزر الذي يضغطه الحجاج بعفويَّة في شخصية «سعد» بطل «سطَّار»، الذي تتكالب عليه الظروف الصعبة، لينجو كل مرة من مطب جديد، في حالة استسلام تام لشخصية صاحب الحظ العاثر «سعد المندبج».
وتكمن حلاوة الكوميديا السعودية في أن مظهر الفنانين يبتعد عن الابتذال والتكلُّف، يرتدون ثيابًا بيضاء وأشمغة حمراء بشكل اعتيادي، أو ربَّما زي العمل لمن تتطلب شخصيته ذلك. بمعنى أن الفنان لا يتكلَّف مظهرًا لافتًا لشحذ ضحكات الجمهور، فالمظهر هنا ليس أمرًا هامًا كما هو في نماذج سينمائية تقدمها دول أخرى مما يتعمَّد فنانوها لبس القطع غير المتناسقة وتصفيف الشعر بشكل منكوش، والظهور بشخصية تقارب شكل المهرِّج بدرجة كبيرة. بينما الكوميديان السعودي ما زال محافظًا على مظهره الطبيعي في غالب الأحيان.
ثم إن اللافت في فيلمي «سطَّار» و«راس براس»، أن الكوميديا لا تستند على الفنانين فقط، بل إن المكان في حد ذاته هو شخصية ساخرة؛ باعثة للضحك اللامنتهي، سواء «لاتحاد السري للزبنة»، وهو لقب الحفرة في «سطَّار»، المكان المظلم الذي يتناطح فيه المجانين الذي سحبهم هوس المصارعة إلى عالم يعج بالغرابة؛ أو «بذيخة» في «راس براس» وهي البلدة الفنتازية التي قدمها الثنائي مالك نجر وعبدالعزيز المزيني، وكانت غرابتها مليئة بالسخرية التي تجعل المشاهد يضحك في كل مرة يغوص داخل دهاليز «بذيخة»؛ إذ المجرمون يتصرفون بسذاجة مفرطة، وكأنهم أطفال يحملون سكاكين حادة ويلعبون بها دون تفكير بعواقب الأمور.. هكذا كانت «بذيخة» بلدة مجنونة لا يملك المشاهد أمامها إلا التندر على جنون ما يرى.
بقي القول إن مقدرة الأفلام السعودية على إضحاك الجمهور المحلي والعربي، هي نقلة لا يُستهان بها؛ لأن الضحك – بحسب ما وصفه الكاتب الفرنسي رابليه – «هو الخاصية المميزة للإنسان»، كما أنه أقوى صفعة يوجهها الإنسان المعاصر تجاه مشقة الحياة اليومية وكآبة الروتين.. فمزيدًا من الكوميديا، مزيدًا من بهجة الحياة.