د. أشرف راجح
لقد حاولت بعض التعليقات الصحفية أن تقدم ملخصًا للفيلم القصير جدًا «الخروج من المصنع»، أحد أفلام الأخوين لوميير الأولى عام 1895، وهو يصور خروج العاملين بمعامل لوميير في «مونبليزير» بمدينة ليون بقولها: «كان الرجال والنساء والأطفال يسرعون لتناول طعام الغداء، بعضهم مشيًا على الأقدام، والبعض الآخر فوق دراجاته. وحينما يتوارى العمال عن الأنظار، يخرج أرباب العمل في سيارتهم لتناول غدائهم أيضًا». وهنا نجد أن مشاهدي السينما الأوائل، حتى قبل تجاوز صدمة الاختراع أو اللعبة تمامًا، وتكون «ثقافة» مشاهدة الأفلام؛ يميلون إلى اصطناع علاقات بين الصور المتحركة المتتابعة التي يشاهدونها وأفعال الشخصيات التي يرونها تتحرك على الشاشة؛ أو كما طرح الكاتب «جون بول توروك» رأيه حول ما أسماه «الخيال السردي»، أنه هو ما قاد مشاهدي هذا الفيلم الذي «يسجل» خروج العمال من بوابة المصنع، وهو ما حرك خيالهم إلى افتراض أن العاملين يسرعون للحاق بفترة الراحة وتناول الغداء بناء على منطق السببية؛ دون وجود ما يؤكد هذا فيما نشاهده؛ أو كما يقول هو نصًا حول هذا الموضوع: «لا شيء في الفيلم يشير أو يدل على أن هؤلاء الرجال كانوا في طريقهم لتناول الغداء». وهو الأمر الذي يجعلنا نفترض – تجاوزًا – هذه المفارقة المنطقية المتعلقة بالمشاهدين، وتتمثل في أن أحد القائمين الأساسيين على فعل «الحكي» ذاته عند مولد السينما كوسيط كانوا هم جمهورها، الذي قد يصطنع علاقات مسببة بين ما يراه بعضه ببعض ليسد ما قد يكون موجودًا من ثغرات في المنطق السردي، وعلاقات السبب والنتيجة في الحكاية؛ بحيث يستكمل – إن جاز التعبير- «تجربته السردية» كمتلقٍ. وهو ما سنرى صداه دائمًا في جل كتب حرفية السيناريو سواء التقليدية منها أو الأحدث أيضًا، التي تعتمد بداهة في إحداث مؤثراتها الدرامية سواء بالمفاجأة أو بالمفارقة على ما يعرفه المشاهد والشخصيات الدرامية من معلومات، أو ما يحجب عنهم منها في التوقيت بعينه من تقدم الحدث المحكي.
ومما يروى أنه في عام 1915 استقدم عبدالرحمن صالحين، صاحب سينما وفندق «الكلوب المصري» بحي الحسين بالقاهرة، أحد المصورين الأجانب كي يصوره وهو جالس أمام باب صالة العرض يدخن النرجيلة ويحيِّي بعض الزبائن من رواد السينما الذين يبادلونه التحية، ويتم عرض هذا الشريط قبل بداية العروض السينمائية التي تقدمها الصالة، بحيث مثلت تلك الحيلة عنصر جذب للجمهور الذي يرغب أن يشاهد لقطات له وهو يتردد على المكان. وهنا تبرز مفارقة طريفة في هذا الأمر، لأنه يجسد رغبة المشاهدين “المبكرة” في رؤية «صورتهم» المادية المباشرة على الشاشة، قبل أن تهفو نفوسهم بعد ذلك إلى أن يجدوا «صورتهم» المعبرة عنهم كواقع معاش، أو كفنٍّ يعبر عنهم.
أمَّا في الوقت الراهن، فقد ذهب بعض الباحثين في الشأن السينمائي إلى أن هذه العلاقة المركبة والشروط الثقافية والاجتماعية للمتفرج، قد تجعل من متلقي الفيلم مبدعًا وحيدًا لهذه الحكاية، بل وتجعل من صانعه متلقيًا لنماذج إبداعية سابقة عليه.
والحقيقة أن هذا التمازج هو الذي يثري هذه العلاقة التبادلية بين صناع السينما وجمهورها. ولذلك أيضًا استمر هذا الارتباط الفريد بين المتفرج وفيلمه كإحدى الخصائص الجوهرية للفن السابع على مر العصور.