د. عبدالرحمن الغنام
في بدايات القرن العشرين، برزت هوليوود كمرجعية رئيسية في صناعة السينما العالمية، مستفيدة من مزيج فريد من موقعها الجغرافي في كاليفورنيا مع وفرة الفرص الاستثمارية الواسعة، والدعم الحكومي القوي، والتقنيات الرائدة التي استطاعت تبنيها وتطويرها. ولكن اليوم، تواجه أضواء ونجومية هوليوود خطر الخفوت بسبب الأزمات المتعددة التي تجتاح الصناعة، وفي قمتها تبرز إضرابات الكتَّاب والممثلين الأخيرة، التي قد تهدد بتغير في معالم البوصلة العالمية للسينما.
تعتبر الإضرابات الأخيرة للكتَّاب والممثلين ليست مجرد معركة بين الاستوديوهات والقوى العاملة، بل هي انعكاس التوتر المتصاعد بين الإبداع البشري والتطور التقني السريع، خاصة في مجال الذكاء الاصطناعي. هذا التوتر يتجلى في التحديات التي تواجه كبرى استوديوهات الأفلام والإمبراطوريات الإعلامية بشكل عام؛ حيث تتغير طريقة توزيع واستهلاك المحتوى السينمائي بسرعة كبيرة، بفضل الخوارزميات المتطورة، والقدرة على تحليل المحتوى وتوظيفه مرة أخرى، التي توفرها الشركات الكبرى في مجال التقنية مثل نتفليكس. تهدد هذه الإمكانيات التقنية الجديدة ليس فقط التجربة التقليدية لمشاهدة الأفلام، بل أيضًا الحاجة إلى المشاركة البشرية في إنشاء وتنظيم المحتوى؛ وهو ما يؤثر بالطبع على اقتصاديات صناعة المحتوى الإبداعي بشكل عام.
يعزو ممثلو هوليوود المضربون وكتَّاب السيناريو والمخرجون الأزمة إلى انتشار تأثير منصات البث الرقمي، وضعف عوائد شباك التذاكر. ومن أهم المطالب التي يطالبون بها وغيرهم من جيش المبدعين، هي الحاجة إلى ممارسات عمل عادلة شفافة ومستدامة، تضمن حصولهم على التقدير المعنوي والمادي للتهديدات التي يمثلها توجه بعض استوديوهات الأفلام لمنافسة كبرى شركات التقنية على حساب صناعة المحتوى باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي. هذه الإضرابات، التي تقودها نقابة الكتَّاب الأميركية (WGA)، بلا شك تؤثر بشكل كبير على مواعيد إنتاج مشاريع الاستوديوهات المجدولة للعرض في السنوات المقبلة. وذكرت التقارير أن ديزني قد أجلت تواريخ إصدار عدة أفلام مثل سلسلة “أفاتار” و”ستار وارز”، وبالتالي يهدد بنقص في تدفق المعروض من الأفلام الجديدة في جميع دور السينما حول العالم.
لكن، هل يمكن أن يكون الحل في الاعتراض على استخدام الذكاء الاصطناعي؟ هل يمكن أن تقف الصناعة في وجه موجة التطور التكنولوجي السريع؟ الإجابة قد تكون لا. فالتهديد الحقيقي قد يكون في العزوف عن تبني الأدوات الجديدة والتكنولوجيا بطريقة متوازنة ومستدامة. وقد يكون الحل في تقبل التغيير، ولكن بشكل يحافظ على القيم الأساسية للصناعة والمبدعين. تحتاج هوليوود وغيرها من صناعات السينما إلى إعادة التفكير في كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز الإبداع البشري بدلاً من استبداله. فبدلاً من رؤية الذكاء الاصطناعي كتهديد، يمكن رؤيته كفرصة لتحقيق نقلة نوعية في صناعة السينما. فالذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد في فهم تفضيلات الجمهور بشكل أفضل، وتقديم أفلام تتوافق مع هذه التفضيلات. كما يمكن أن يساعد في تحسين العمليات الإنتاجية وتقليل التكاليف؛ مما يفتح الباب أمام المزيد من الابتكار والتجربة.
التكنولوجيا وراء العديد من التغييرات التي نراها في عالم اليوم، وصناعة السينما ليست استثناء. ولكن القوة الدافعة وراء هذه الصناعة لا تزال وستظل هي القدرة الإبداعية للبشر لرواية القصص والتعبير عن الأفكار والمشاعر. في حين يمكن أن يكون من السهل الانجراف إلى مقاومة هذه التغييرات والالتزام بالطرق التقليدية، فإن التكيف مع التطورات التكنولوجية يبرز كأمر ضروري للبقاء والنجاح في صناعة السينما. ولذلك، فإن تحقيق التوازن بين الابتكار والأصالة في قطاع الأفلام السعودي يكمن من خلال النظر إلى الذكاء الاصطناعي كأداة لتعزيز الإبداع البشري بدلاً من استبداله، ومن خلال تنفيذ سياسات شفافة ترتكز على العاملين ومبادرات طموحة تعمل على تنمية الكفاءات والمهارات. وتجدر الإشارة إلى مبادرة “فيلماثون”، التي أعلنت عنها هيئة الأفلام والتي تُجسد التقاء الإبداع الفني بروح الابتكار التقني.
ختامًا، ستشهد السنوات المقبلة تأجيلاً لعروض عدد من أفلام الاستوديوهات المجدولة للعرض في دور السينما، أو على المنصات الرقمية. غير أن هذه التغييرات من شأنها أن تقدم فرصة ذهبية للمبدعين السعوديين للتألق بشكل أكبر في إنتاج المحتوى المحلي، مع توسيع نطاق تأثيرهم في الأسواق العالمية.
التطور التكنولوجي مستمر، وهو يقدم أدوات فعالة وجديدة تمكِّن المبدعين من تجسيد قصصهم المفضلة بطرق جديدة وفريدة، فالأفلام والمسلسلات التي نحبها ونتعلق بها هي منتج للإبداع البشري، وهذه الحقيقة لن تتغير. والتكنولوجيا قد تمنحنا الأدوات، لكن القصص التي نرويها والأفكار التي نصورها، هي ما يجعل السينما مميزة وذات معنى. في النهاية، الإبداع البشري هو الذي يتجاوز الزمن والحدود، ويترك بصمة دائمة في قلوب الجماهير.