تركي صالح
في فيلم «العراب» الشهير، الذي أنتج في سبعينيات القرن العشرين، تبرز عدة شخصيات ثانوية في ظاهرها، لكنها في مجموعها تكون فسيفساء عالية الصنعة، متقنة الحبكة، مدهشة التفاصيل. هذا الخليط الذي يبرز بداية من المشهد الأول، مشهد الزواج المقصود والمعالج بدقة عالية، بمشاهده الداخلية والخارجية؛ إذ نتعرف على المجتمع الصقلي في أميركا ذلك الزمن من تجاره وعائلاته وفنانيه.
سياقات الفيلم وأحداثه والقضايا التي يعالجها تباعًا، يمكن أن نجدها في الكثير من أفلام هوليوود، أو نظيراتها في شتى أنحاء العالم.
لكن عظمة العمل وديمومته وتحوله لأيقونة سينمائية عالمية، يأتي من تماسك الفيلم وإبهاره عبر خلق عالم موازٍ يعيش فيه الأبطال؛ حياة متكاملة تتحرك فيها الأحداث عبر نسيج فني خلاق، تخلق فيه الشخصيات عالمها الخاص الذي تتجانس فيه مع نظيراتها.
لقد قدمت السينما العالمية الكثير من الشخصيات الأدبية البارزة الحقيقية منها، والمبتكرة، عبر العديد من الأعمال الخالدة. لكن تقديمنا للعرَّاب، هو محاولة لتقريب الفكرة التي نحاول مقاربتها في مقالنا هذا، وهي: ما هي المعالجة الناجحة للشخصيات الفنية التي يحوم حولها لغط؟
ولعلَّ فيلم العرَّاب يعود للواجهة في طريقة تقديمه لشخصية الفنان، إذ يتحدث الكثير من نقاد السينما على أن شخصية الفنان في العرَّاب هي عن «فرانك سيناترا» وعلاقته بالعائلة. ولعل هناك من تحدث عن محاولة «سيناترا» إيقاف الفيلم بسبب عدم رضاه عن تصويره، وعرض حياته في فيلم يتحدث عن المافيا. لا يهم موقف «سيناترا» هنا، بقدر وضعه في خانة الصعوبات التي تتعرض الأعمال الفنية التي تتعاطى مع الشخصيات المعتبرة ولو إيحاءً.
إن تقديم شخصية الفنان في فيلم العرَّاب أصبحت نموذجًا من حيث الشكل واللبس والحركة وأسلوب الكلام. هذا، غير الحفاوة التي لقيها والعطف الأبوي الذي حظي به من زعيم عائلة كابوني. لكنه كان نموذجًا يعبر عن الروابط العائلية التي تتقدم في مجتمعات المافيا على كل اعتبار، وربَّما بعيدًا عن ذلك هي إحدى طرق غسيل الأموال عبر القوى الناعمة.
لكن هناك شخصيات قدَّمتها السينما عبر استنساخها كما هي في النص الأصل، مثل زوربا اليوناني. وهي معالجة هادئة قدَّمها وجه عالمي انطبع بها وانطبعت به؛ «أنتوني كوين» الذي يعرفه العرب بعمر المختار، يعرفه العالم برقصة «زوربا» الشهيرة التي حركت وجدان الجماهير عبر عقود، ومثَّلت روح التحرر والانطلاق.
الكثير من الشخصيات الأيقونية قدَّمت عبر السينما، لكن لم يبقَ في أذهان المتابعين إلا قلة. وهذا يرجع إلى كثير من العوامل أهمها: زخم الشخصية، وأسلوب الطرح، والمعالجة. ثم إن الحياة الثقافية في السعودية تاريخيًا، تقف على كنز من الشخصيات «الملغزة» التي يحوم حولها الصخب. ولعلَّ طرح اسم الفنان الشهير «محليًا» بشير حمد شنان، هو لمطابقته لمعايير الشخصية الفنية الناجحة «سينمائيًا» من حيث شدة قربه وتمثيله للشخصية الشعبية السعودية في الستينيات، وللضبابية الشديدة على حياته ووفاته واللغط الذي يحوم حول حياته الشخصية، ثم إنه ينضم إلى نخبة من المبدعين الذين غادروا الحياة مبكرًا، لكنهم تركوا أثرًا خالدًا.