د. علي زعلة
تتطلب جملة من الأعمال الفنية تواطؤًا معرفيًا مشتركًا بين طرفي عملية الإنتاج والتلقي، إذ من الضروري أن يكون المشاهد على دراية ببعض السياقات التاريخية والظروف العالمية والأميركية الداخلية التي تمثل الإطار التاريخي لقصة أوبنهايمر وفيلم نولان، حيث الحرب العالمية الثانية، وتحالف الأميركان والسوفييت، ثم التحول إلى العداء ونشوء صراع ما عُرف بالحرب الباردة بين المعسكرين، وبروز موجة المكارثية (McCarthyism) منبثقة من مجلس الشيوخ إلى الداخل الأميركي، وهي موجة شهيرة ضيقت على عدد من الساسة والمثقفين الأميركان ووجهت إليهم الاتهامات بالشيوعية والعمالة للسوفييت، وكان من ضحاياها أو مستهدَفيها – على الأقل – روبرت أوبنهايمر وغيره من العلماء والمثقفين والسياسيين الأميركان.
يعود المخرج كريستوفر نولان – بعد قصة الانسحاب في فيلمه DUNKIRK (2017)- إلى أجواء الحرب الكونية الثانية ليختار من بين كل تلك التفاصيل الهائلة المتشابكة، قصة عالم الفيزياء أوبنهايمر، لتكون بؤرة انطلاقه لتقديم نظرته حول أبرز تحولات تلك الحرب ومخرجاتها المتمثل في انفتاح جحيم الأسلحة النووية، متكئًا على كتاب American Prometheus: Triumph and Tragedy of J. Robert Oppenheimer (2006) ليقدم حياة شخصية جدلية انقسم حولها الناس؛ بين صورة العالِم المخلص لوطنه، وصورة العالِم المجرم الذي فتح للدمار أبوابًا لن تُغلق من بعده أبدًا! وإذا كانت العملية الإبداعية أيًّا ما كان جنسها الفني هي فعلُ اختيارٍ وتنظيم، فإن نولان قد نجح منذ الوهلة الأولى التي اختار فيها هذا المدخل الذكي إلى هذه الغابة المتشابكة. وتبقى عملية التنظيم السردي والتقديم السينماتوغرافي بعامة، هي المحك الحقيقي للفنان أو الصانع، وبخاصة حين يقوم شخص واحد بمعظم الأدوار الأساسية لإنتاج الفيلم كما في حالة كريستوفر نولان هنا.
لا يميل نولان إلى تقديم وجبة سينمائية سهلة الهضم إلى المشاهد الذي ربما قد اعتاد ذلك منه، وقد حاز بذلك إعجاب فريق ونفور فريق آخر من المشاهدين. ولمَّا كانت أفلامه السابقة تتفاوت في طواعية التلقي من فيلم إلى آخر، إلا أن أحدًا لم يتوقع أو يتخيل كيف يمكن لفيلم بيوغرافي تاريخي أن يكون معقدًا أو عصيًّا على الفهم والاندماج معه منذ المشاهدة الأولى! لكن هذا ما حدث مع معظم – إن لم يكن كل – من شاهد هذا الفيلم، وظهر ذلك من خلال المراجعات والتعليقات في مواقع التواصل أو غيرها؛ إذ أشار الكثيرون إلى طول الفيلم وكمية مهولة من التفاصيل والشخصيات والحوارات والمشاهد التي تحتاج إلى تكرار المشاهدة للقبض عليها واستنطاقها.
ولست أظن أن تلك الأمور هي سبب تعقيد الفيلم، ولا أرى الفيلم معقدًا من الأساس. هو فقط فيلم مشغول بعناية فنية، وحرفية عالية من قبل كاتبه ومخرجه نولان، الذي يعزز مجددًا مضيَّه على خطوات الرموز السينمائية الخالدة في تاريخ الصناعة. أولئك الذين طالما كان لديهم تعاطٍ مختلف وفلسفة خاصة لمفهوم الزمن وحركته ووظيفته السردية المحورية. إذ مزَج نولان في هذا الفيلم بين أكثر من خط زمني، لينتج لدينا ذلك النوع من الزمن المتشظِّي المفارق للزمن الكرونولوجي الأفقي المعتاد في معظم أفلام البيوغرافيا، وحقَن مفاصل الفيلم بحركات زمنية تزاوِج بين السَّرد الاستعاديِّ والسَّرد الاستباقيِّ في مدى زمني يزيد على 20 عامًا في بعض تلك الحركات السردية المربكة في المشاهدة الأولى. ولم يكتفِ بذلك، بل زاوج بين وجهتي نظر سرديتين داخليتين، حيث استزرع بمهارة وإحكام مركزين مختلفين متضادين للتبئير وتمرير الحكاية عبر مركزي نظر شخصيتين محوريتين في الفيلم؛ الأولى شخصية العالم أوبنهايمر (بأداء باهر لكيليان ميرفي)، والثانية شخصية السياسي الأدميرال لويس ستروس (بإتقان مميز لروبرت داوني جونيور). وقد أمعن نولان في حوارية اللقطات والأحداث المروية من زاوية نظر أوبنهايمر ملونةً بالألوان، في حين تأتي المشاهد بالأبيض والأسود عبر بؤرة نظر ستروس رئيس هيئة الطاقة الذرية الأميركية. وما من شك أن مثل هذه التقنيات السينماتوغرافية تستدعي أدوات فرجة معينة للقبض على حركة السرد، وفهم الإشارات المتكاثرة الواردة في هذا الفيلم.
عبر هذه التقنيات السينمائية التي تحمل تحدياتها الخاصة بالمخرج والمشاهد على حد سواء؛ قدَّم لنا نولان حياة أوبنهايمر العالم الفيزيائي؛ الشخصية اليهودية العبقرية المكتئبة والتدميرية، التي هي “بحاجة إلى الفيزياء أكثر من حاجتها إلى الأصدقاء” بتجسيد كيليان ميرفي، الذي أبدع بتعبيراته ونظراته وأداءاته في تقديم شخصية الباحث الشغوف بالعلم والتعلُّم منذ صغره، في حقبة زمنية ازدحمت بأسماء علمية فادحة التميز والتأثير العلمي العالمي، وإلى جواره عدد كبير من نجوم الأوسكار والجوائز العالمية في أدوار مميزة، وبخاصة لروبرت داوني جونيور المتجدد دومًا، ودور لافت أخاذ لإيميلي بلنت التي أدت شخصية كيتي زوجة أوبنهايمر، أستاذة الأحياء التي ساندت زوجها برغم علمها ببعض خياناته لها! إذ كانت قوية صلبة تحتويه وتحفزه دومًا على استجماع قواه والقتال ضد خصومه، وكانت المشاهد التي ظهرت فيها على اطلاع بخياناته من أقوى المشاهد؛ فحين وجدت زوجها متكورًا على نفسه باكيًا مرتجفًا إثر انتحار عشيقته جين تاتلوك، احتضنته زوجته (كيتي) قليلاً ثم أمسكت برأسه مخاطبة إياه: “لا يمكنك أن ترتكب خطيئة ثم تجعلنا نشعر بالأسى لأنه كان لها عواقب، استجمع نفسك وانهض، العالم ينتظرك”.
حمل الفيلم لغة عالية إحالية في معظم الحوارات، وشكَّل عنصر الحوار أداة سرد سينمائي أساس في هذا الفيلم المليء بالحوارات المميزة بين مختلف الشخصيات، إذ انطلق الفيلم من قصتين إطاريَّتين لجلستيْ استجواب مختلفتين؛ الأولى لأوبنهايمر لبحث مسألة تصريحه الأمني والتحقيق في ولائه أو خيانته لوطنه في ظل حملة روبرت مكارثي وما أشاعه من موجة التشكيك والاتهامات التي تبيَّن جزافُها لاحقًا، والثانية في سياق ترشح لويس ستروس لمنصب وزير التجارة. وفيهما سيلٌ من الإدلاءات والإفادات من قبل المحققين والمستجوَبين والشهود وغيرهم. وقد استعان نولان في إنتاج فيلمه هذا بأسماء مميزة ممن اعتاد العمل معهم في أفلامه السابقة، حيث قام بالتصوير الهولندي هويت فان هويتما الذي عمل معه في Interstellar وDUNKIRK، وألَّف موسيقى الفيلم السويدي لودفيغ غورانسون الذي عمل مع نولان في فيلم Tenet.
وقد تفوقت التجربة الموسيقية والصوتية بشكل عام في هذا الفيلم على التجربة البصرية التي لم تكن سيئة بالطبع، حيث أدت الموسيقى وظائفها الإيقاعية، وأسهمت في حشد التَّنامي الدرامي، وأثَّرت في وعي المتفرج بما يرشَح عن رؤية المخرج بشكل صريح أو مبطَّن. كما تم توظيف الصَّمت توظيفًا ناجحًا بوصفه نمطًا من أنماط البنية الإيقاعية الفيلمية، إذ شكَّلت لحظات الصمت الممتدة قليلًا مع انفجار القنبلة في تجربة ترينيتي Trinity مشهدًا مهيبًا حبس الأنفاس، إلا أنفاس شخص واحد هي التي كان يسمعها الملايين حول العالم عبر فيلم نولان؛ أنفاس روبرت أوبنهايمر مدير مشروع مانهاتن وأبو القنبلة الذرية التي قطع دويُّ انفجارها – حين وصوله – فحيحَ أبيها المتوتِّر!
وإذا كان كريستوفر نولان يعلن دومًا أنه ليس من المخرجين الذين يميلون إلى استعمال المؤثرات البصرية CGI، فإنه قد اعتمد على المونتاج كثيرًا في هذا الفيلم، وقد قامت Jennifer Lame المعروفة بتحريرها عددًا من الأفلام مع نولان وغيره بعمل أكثر من رائع، في مثل هذا الفيلم المتشظي المتعدد الأصوات ووجهات النظر والخطوط الزمنية؛ إذ كان المونتاج العملية التحريرية الأكثر محوريةً وتأثيرًا في البنية الزمنية والحبكة السردية، وتواشج الأزمنة بمستوياتها المتعددة؛ إنه عملية تركيبية لمجموعة من الصور واللقطات أسهمت في خلق صورٍ أخرى لا مرئية، صور إشارية ودلالية تولِّد المعنى وتوجه السرد وتخترع أفق التوقع الخاص بها، جنبًا إلى جنب بعض اللقطات المكبرة جدًا Big close-up shots التي امتلأت شاشة الآيماكس فيها بوجه أوبنهايمر، مبديةً أدق تعبيراته واعتمالاته الداخلية وردود أفعاله الصامتة، مستفزةً حنق المتفرج أو تعاطفه من خلال الملامح الدقيقة للشخصية.
الانحياز والتلقي
برغم أنها المرة الأولى التي يكتب فيها نولان فيلمه بضمير المتكلم الذي يشيع صبغةً ذاتيةً في الغالب، فهو لم يصرِّح بتجريم أوبنهايمر أو تلميعه – وإن بدا منحازًا إلى العالِم في مقابل السياسي والعسكري – والأقرب أنه سعى إلى عرض جوانب شخصية من حياته ورؤاه وتحدياته، إلى جوار الآراء الشائعة والرؤى المتضادة حول مسألة استغلال العلم في الأغراض السياسية أو الحربية.
وهي قضية ليست بجديدة، فمثل هذا الجدل يتعالى عند الحديث عن اختطاف الدين أو الفن أو الثقافة من قِبل الساسة أو العسكريين بمختلف توجهاتهم عبر التاريخ. وتمثِّل تجربة أوبنهايمر الذرية مدخلًا مثاليًا للوصول إلى معنى المعنى في مثل هذه السياقات. لقد عرض نولان عددًا من المشاهد التي بدا فيها أوبنهايمر في صورة عالم مجرم يقنع زملاءه العلماء بحماس كبير لإنجاح القنبلة، كما عرض لحظات ندمه وصدمته من فقدان السيطرة على السلاح المدمر الذي أشرف على إنتاجه، ملمحًا أثناء ذلك إلى المعضلة الأخلاقية الشهيرة. ولعلَّ اختيار نولان الواعي لوجهة نظر أخرى ناقمة (لويس ستراوس) واستزراعها كمركز تبئير آخر للفيلم، يشترك في دفع عجلة الأحداث وعلاقات الشخصيات وتقديم الحكاية وفق رؤية مغايرة تمثل جانب الساسة والمتنفذين الذي يجانب ذاتية السرد ورومانسية العالِم المضطرب داخليا، ذلك الذي يرى العالم بالألوان في حين يراه السياسي مجرّدًا، بالأبيض والأسود، خاليًا من الذاتية الساذجة التي ربَّما يسهُل افتراسها “يسعى الهواة والسذَّج إلى الشمس والأضواء فيتعرضون للالتهام، بينما يبقى الدهاة والمحترفون في الظلال ينجزون الأمور ويربحون الصراعات” كما قال ستروس. وكأن كريستوفر نولان – في فيلمه هذا – يعقد جلسة استجواب ومحاكمة لكافة القوى والنزعات والتيارات والحكومات التي شكلت خارطة العالم في العصر الحديث، مستغلةً كل الموارد الممكنة للسيطرة والسيادة وتدمير الخصوم والمناوئين غير عابئة بالبشر، أو الطبيعة، أو المدنية، والحضارة!
الحياد موقف شبه مستحيل في هذا العالم، ومهما انحاز الصانع والفنان إلى فكرة بعينها، فإن للمتلقي أدواته ووعيه الذي سيحاكم ذلك كله بحرية تامة، ويبقى لكل رأي من الآراء وجاهته ومعطياته التي يرتهن إليها. ولكن من الظلم والقصور أن نرتهن في تقييم هذا الفيلم الكبير إلى الحكم الأخلاقي فحسب، فهو مثله مثل غيره من الطروحات الجدلية، التي ليس من الصواب أن يُلغى الجانب الفني فيها، الذي هو المحك الحقيقي للخطابات الإبداعية المتعددة، ولا سيَّما السينما، التي أعتقد أنها ستفسح في تاريخها مكانة متقدمة لفيلم أوبنهايمر، الذي سوف يطول الحديث عنه، فهو بحق أيقونة سينمائية فريدة.