عهود منصور حجازي
(زوال Zawal) عنوان الفيلم الحائز على جائزة النخلة الذهبية لأفضل فيلم قصير في الدورة الثامنة من مهرجان أفلام السعودية (2022) للمخرج السعودي مجتبى سعيد.
تتجلى في الفيلم رؤية المخرج في انفتاحه على عالم الرمز والتورية، من خلال تسليط الضوء على قضايا مهمة، تبدو للناظر أنها تشير بشكل خاص إلى معاناة اللاجئين وحقبة (كوفيد – 19)، لكنها في الحقيقة أكبر من ذلك.
الحكاية
يعرض الفيلم لمحة إلى حياة الطفل (آدم) في سبع دقائق تقريبًا، مركّزًا على مكانين: الحجرة وخارج الحجرة.
تُبرز اللقطة الأولى تركيزًا على قدمين جافتين لطفل في عمر المدرسة، تتحركان بملل، وتظهر كفَّاه وهما تعبثان بغصن ورد جاف، يفركه ويشمّه. يقابله مشهد كفَّي والدته اللتين تسبِّحان، ويعلو صوتها بالأذكار منذ الدقيقة الأولى للعرض، مرتدية لباس الصلاة، وأمامها تلفاز صغير يعرض برنامجًا دينيًا، تبدو فيه صورة الكعبة المشرَّفة. وحين يصرخ الطفل باهتياج أنه ملَّ من البقاء في الحجرة، محتجًا على عدم الخروج، تخبره بأنَّ الخروج منها يتسبب في المرض والموت. ثم تشرع في الصلاة، فينتهز انشغالها، ويغادر الحجرة بحذر.
ما إن يخرج آدم راكضًا في الممر الطويل حتى تلاحقه الكاميرا من الخلف، ثم تقترب منه عندما يعثر في طريقه على غصن يحمل زهرة عطرية، فيفركها في يده ويشمُّها مثلما فعل مع غصن الورد الجاف في الحجرة. يأخذ قطفة من الزهرة ويدسها في جيبه، ثم ينطلق في عالم الخارج الذي تاق إلى رؤيته.
يلمح في الممر رجلاً وامرأة في علاقة حميمة، ويمضي أمام باب نصف مفتوح، خلفه رجل يرتدي كِمَامة، وتمرُّ من أمامه نقَّالة تحمل مريضًا، يدفعها أشخاص بأردية خاصة مغلَّفة بشكل تام؛ في حين يشاهد آخرين يحملون أجهزة تعقيم على ظهورهم، وفي الأجواء صوت بكاء طفل يتعالى. في الخلفية تصدر التعليمات باللغة الإنجليزية بصوت امرأة تَنهى اللاجئين عن مغادرة أماكنهم. مع ذلك، يخترق آدم حاجزًا من الشريط اللاصق ليُهدي امرأة شابة اسمها صوفيا ذلك الغصن العطري؛ تبدو الشابة أكبر من عمره بكثير، وما إن تلمح الطفل حتى تنصحه بالمغادرة، لكنَّ الرجال بالخارج يقتحمون المكان فتخاف وتخبرهم عن اسمه وعن مكان إقامته. يركض آدم مصحوبًا بموسيقا سريعة الإيقاع، هاربًا في ممر مظلم تتخلله القليل من الأضواء التي يبعثها نور الشمس من تحت الأسقف المثقوبة، تستقبله الكاميرا من الأمام، راكضة باتجاهه، كما تتناهى إلى سمعه أصوات مخيفة: مطاردات وصراخ وهرب وقبض وصفارة سيارات الشرطة. يصل إلى حجرته التي يقيم فيها أخيرًا، وينادي أمه من الداخل باحثًا عنها فوق سجَّادتها الفارغة منها، وينغلق الباب.
ماذا تقول الحجرة؟
يمكن تشريح الفيلم إلى مستويين: المستوى الواقعي الذي يصوِّر الحياة التي يحياها اللاجئون في المساكن المخصصة في زمن (كوفيد – 19) في بلدان اللجوء، والقوانين الصارمة لتلك المساكن. أمَّا المستوى الثاني، فهو الرمزية التي انطوى عليها كلُّ مشهد من تلك المشاهد.
ولفهم ما تعنيه الحجرة التي كانت تحوي الطفل وأمَّه، فهي حجرة بسيطة، معزولة عن الأصوات الخارجية، تبرزها الكاميرا بحميمية من خلال الإضاءة الطبيعية، وكتابات الجدار بجانب السرير، والمكونات القليلة للأثاث غير المتكلّف، إضافة إلى توفُّر مساحة محددة لأداء الشعائر الدينية. هذا المكان الصغير بجدرانه الأربعة لم يكن إلا رمزًا للوطن كما يبرهن السياق. الدفء والطمأنينة ووجود الأم رمزًا للاستقرار، وصوت التسبيح والصلاة، برغم الملل والرغبة في التغيير ومشاهدة العالم خارجًا، فإنها مكوِّنات كافية للاحتواء.
فإن كان الوطن هو الحجرة الصغيرة تلك، فالخارج هو الأمكنة خارج ذلك الوطن (اللغة داخل الحجرة هي اللغة المتداولة بين الطفل وأمِّه، أمَّا خارجها فالأصوات تستخدم لغة أجنبية في الحديث)؛ الحياة غير المألوفة، والتجوُّل غريبًا، والشعور بالقلق طوال الوقت (الطفل يشاهد الآخرين من خلف الجدران والزوايا الخفيَّة). ويظهر الخوف غير المبرَّر من الآخرين في الغربة (الرجل الذي يقف خلف نصف الباب ثم يغلقه في وجه آدم)، وتفكك روابط الناس هناك (رجلٌ يُقبض عليه في المشهد ما قبل الأخير ولا يهرع لنجدته أحد).
الورد والرائحة
يظهر الورد الجاف في بداية الفيلم في يد الطفل متيبسًا بلا رائحة، في إشارة إلى نفْس الإنسان حين يطول به العهد في مكانه ويتوق للمغادرة وتجربة الحياة بعيدًا، ثم تظهر أزهار شذيَّة يستنشق عبيرها عند أول محاولة للخروج، في دلالة استعارية لروح الإنسان حين تتخطى الحدود، فتتفتح ويفوح أريجها، لكنها سرعان ما تخبو وتزول لهفتها (الزهر يختبئ في جيب آدم ويتوارى عن النظر). وترمز المرأة الشابة إلى الطموح الذي يخادع المرء خارج حدوده المألوفة ويكبر حتى يفوق تخيله، فيُهديه الإنسان زهرة شبابه، لكنه يفيق لاحقًا ويقف أمام الحقائق (الشابة تغدر به وتصرَّح بمعلوماته لرجال الأمن).
الخروج
الخروج هو الثيمة الرئيسية في الفيلم التي تلاحق بعواقبها الطفل منذ اتخذ قرار المجازفة. ويرمز الخروج من الحجرة إلى العديد من الأشياء التي يمكن استنباطها نظرًا لوجود قرائن، من هذه الرمزيات:
- الهجرة من الوطن وما يجابه المرء من المتاعب خارجه (الوطن حيث الأم والخارج حيث الغرباء). ويقوِّي هذه الرؤية تغيُّر اللغة بمجرد مغادرة الحجرة.
- تغيير المعتقَد (الخروج من الحجرة التي تؤدَّى فيها العبادة).
- المجازفة بالمضمون (مغادرة أمِّه من أجل الشابة صوفيا).
- التخلُّص من الحياة. لم تكن الحجرة شيئًا ذا قيمة عند آدم، لكنَّ الخروج منها إلى دهاليز الموت أشعره بالرغبة في الرجوع (عودته مذعورًا إلى حجرة فارغة من الأم).
- الإشارة إلى خروج متأصل في وجدان البشر، وهو خروج الإنسان الأول من الجنة إلى الأرض. ويقوِّي هذه الفرضية اختيار تسمية الطفل بـ(آدم) على وجه الخصوص، بوجه شبه مهم، هو أنَّ آدم – عليه السلام – حين عصى نزَل إلى الأرض التي يُفسد فيها الإنسان ويسفك الدماء كما أشار القرآن الكريم (سورة البقرة، آية 30)، وكذلك الطفل آدم، أدَّت مخالفته لأمر أمِّه (لا تخرج، تموت) إلى تغيُّر حياته بشكل تام.
ما الزوال؟
يغادر آدم أشياءه المألوفة، وتعترضه الأخطار، وتنتظره المتاعب. في غضون دقائق ينكشف غطاء الأمان ويتلاشى الاستقرار ولا يعود للطمأنينة وجود، حتى المرأة الوحيدة التي أحبَّته اختفت من حياته.
مِن زوالٍ إلى زوال، تتهدَّم الأركان، ولا يعود للمرء شيء يثق فيه ولا جدار آمن يتكئ عليه.
كأنَّ المخرج هنا يريد أن يقول إن علينا ألا نثق في البقاء، هذه هي العِبرة، فلا توجد حياةٌ مستقرَّةٌ.
باحثة دكتوراه، مهتمة بالسينما والنقد السينمائي