أحمد العياد
أحد آخر أعمال المخرج المصري المميز أحمد عبدالله السيد، الذي يقدم لنا تجربته السينمائية السادسة، فيلم «19 ب» الذي عرض، مؤخرًا، في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ونال عنه ثلاث جوائز سينمائية، ومتوقع أن يواصل نجاحاته في قادم المهرجانات السينمائية.
الفيلم الذي تدور أحداثه حول حارس عقار قديم جدًا عمره أكثر من 100 عام، يرعاه ويحرسه بعدما ترك هذا العقار أصحابه وسافروا خارج مصر.
حياة هذا الحارس هادئة تمامًا ما بين العيش وحيدًا مع الحيوانات من كلاب وقطط الحي وكلبه «عنتر»، وما بين اهتمامه بنباتات بيته «النعناع والريحان» يقطع ذلك أحاديث قليلة مع جاره الحارس وجارته الطبيبة المحبة للحيوانات مثله.
لا نعرف لهذا الحارس اسمًا، فالجميع يناديه «بابا»، يعيش بسعادة وهدوء وعزلة، ومستمتع بها ما بين أغاني عبدالمطلب وأم كلثوم، وتأمل وسُكر أحيانًا.
لا يريد أكثر من ذلك من الحياة، تلك هي سلوته، وسعادته العزلة، وهذه الممارسات البسيطة التي يقوم بها بين رعاية كلبه ونباتاته.
بجانب ذلك تزداد حياته توترًا وقلقًا بالقرب الشديد من الناس والتواصل معهم، فهناك مثلاً من هو طامح بمكانه وعقاره، راغب أن يستخدمها كمخزن لبضاعته المهربة (أحمد خالد صالح)، أو حتى ابنته (ناهد السباعي) التي تأتي دائمًا بمشاكلها مع زوجها وبمطالباتها الدائمة له بترك هذا المنزل والعقار .
ليصل بنا سيد رجب بطل الفيلم لحالة الحارس، ومود هذه الشخصية تطلب ذلك منه أداء تمثيليًا بديعًا، لا يحتاج لكثرة استعراض ولا يحتاج لمبالغة في الأداء، بل هو غوص في خبايا وتفاصيل هذا الحارس ليقدمه بهذا الشكل؛ الحارس الذي يلبسه الخوف والارتباك والجبن أحيانًا بمجرد اقتحام خصوصيته واقتحام بيته، لا يستطيع الرد ولا يستطيع المقاومة، ولا حتى المواجهة بالكلام. وفي ذات الوقت تجده صوته يعلو عندما يتعرض حيوان من حيواناته إلى أذى.. هي شخصية مليئة بالمشاعر والأحاسيس والعقد والتشوهات طابعها الطيبة، ولكن مخالطة المجتمع ساهمت في تحطيم وتشويه هذه الشخصية.
المكان بطل رئيسي للعمل
أحد أهم أسباب تميز الفيلم هو البيت الذي تم تقديم وعرض القصة فيه، المكان الساحر بكل تفاصيله.. بتقسيماته.. بسقفه العالي.. بنوافذه الكبيرة.. بالديكورات داخل البيت من تفاصيل وغيرها. مكان تظهر فيه الأصالة والعراقة برغم قدمه وتشوهاته وإهماله، فكان المكان بطلاً مشاركًا في هذا الفيلم، وتشعر أنه نصف وتوأم حارس العقار (سيد رجب)، بل وشريكه في هذه الحياة، ولا يرضى له غيره شريكًا ولا ساكنًا سواه، يشعر ويحس به في المنزل، في كل مشهد مثلاً يجمع بين سيد رجب وأحمد خالد صالح أو ناهد السباعي تشعر أنه مشهد ثلاثي والبيت مشارك لهم في المشهد.
ساعد في ذلك وجود مصور مهم مثل مصطفى الكاشف، الذي أظهر لنا في العديد من المشاهد واللقطات جماليات المكان وروحه الخاصة.
تجربة سادسة جديرة بالاحتفاء
بجانب البطل سيد رجب كان حضور الممثلين مميزًا ومتناغمًا جدًا، سواء أحمد خالد صالح، أو فدوى عابد، أو ناهد السباعي، إضافة إلى ظهور صبري عبدالمنعم اللافت. نقطة أخرى ميزت الفيلم هي شريط الصوت والأغاني الذي كان مصاحبًا للفيلم ما بين أغانٍ قديمة أو راب، وحتى صوفية، كان مزيجًا ناسب قصة الفيلم وتقلباته.
فيلم «19 ب» عودة لعالم أحمد عبدالله السيد الذي عرف عنه، يخفي أكثر مما يظهر، كل من يشاهده له حرية تفسير ما يراه، وإن كنت ضد الفهم المعلب المؤطر والتفسيرات والإجابات الجاهزة لرمزيات الفيلم وكأنه حل للغز أو أحجية.
ختامًا.. ما زال أحمد عبدالله السيد يتفرد بصوته الخاص وتجربته الفريدة، وها نحن في فيلمه السادس ما زال يجعلنا نناقش ونتحدث عنه بشكل كبير، ونترقب أكثر وأكثر لعالم وسينما أحمد عبدالله السيد.
وربَّما «19 ب» ليس بجماهيرية فيلمه الأخير «ليل خارجي»، لكن هي قطعًا تجربة عميقة تستحق الاحتفاء والتوقف عندها طويلاً.
سلمت يدك أبو حميد
نقاش مبدع وتحليل عمق غاص في بحر هذا الفيلم الرائع عن حياة هذا الحارس الهادئة.