أمين الزاوي
يحدث انقلاب متسارع ورهيب في علاقة الفرد والأسرة والجماعة الاجتماعية بوسائل التثقيف والإعلام العمومية والخاصة، فالتلفزيون الذي شكل بدءاً من الخمسينيات على المستوى الأوروبي، ومن السبعينيات في العالم العربي وبلدان شمال أفريقيا، الحلقة المركزية في التثقيف وفي الإمتاع والمؤانسة العائلية، ها هو يحتضر اليوم.
إننا نشهد جنازة ثقافية وإعلامية، جنازة التلفزيون، أو بالأحرى إننا نمشي في هذه الجنازة، ربما من دون أن ننتبه بأننا “ندفن” شيئاً عزيزاً شكل ذاكرتنا وأحاسيسنا وذوقنا خلال نصف قرن.
لم يعد في “صندوق العجب”، كما كانت تسميه العامة، أي عجب أو إعجاب، لم يعد “صندوق العجب” فخر بعض الأسر الميسورة التي كانت تتميز عن غيرها باقتناء تلفزيون بالألوان، في حين تقتنع البقية من المجتمع بجهاز تلفزيون بالأبيض والأسود!
كثير منا لا يزال يتذكر يوم دخل التلفزيون أول مرة البيت، وكثير يتذكر ربما سعادة الجميع بالانتقال من صورة الأبيض والأسود إلى صورة بالألوان “المدهشة”! على الرغم من رداءة الصورة!
كثير منا لا يزال يذكر بكثير من البهجة يوم تغير حجم التلفاز من شاشة صغيرة “مغبشة” إلى شاشة كبيرة نسبياً، وكم كانت السعادة العائلية غامرة وكبيرة، الكبار قبل الأطفال!
الجميع ربما يذكر مذيعات الربط، والبرامج التي تبدأ بعد منتصف النهار وتنتهي عند منتصف الليل، تبدأ بموسيقى “ششششت” وتنتهي بمثلها! لم يكن التلفزيون ليظل يرسل برامجه على مدار ساعات الليل والنهار، وكنا سعداء ونحن ننتظر موعد بداية الإرسال وننتظر إطلالة مذيعة الربط بكل أناقتها، وهي تفصل برنامج اليوم من تلاوة آيات بينات من القرآن الكريم، إلى نشرة الأحوال الجوية ونشرة الأحوال السياسية، وبرنامج ترفيهي وسهرة غنائية وفيلم السهرة. كانت الأسرة تجتمع لتشاهد ما يقدم ولم يكن هناك ما يزعج أو ينفر لا أخلاقياً ولا فنياً، أفلام جرأتها أكبر من جرأة أفلام اليوم وكنا نشاهدها معاً من دون نوايا سيئة لأننا كنا ندرك بأن “صندوق العجب” يقدم “العجب”، أي يقدم التمثيل، وكنا نحزن قليلاً أو كثيراً، كل مساء، حين تودعنا مذيعة الربط بابتسامة لطيفة متمنية لنا “ليلة سعيدة” وتتمنى أن تلقانا في اليوم التالي، تودعنا على آيات من الذكر الحكيم، وبعدها تجيء موسيقى الغلق “شششتت”.
كان لجهاز التلفزيون طاولته الخاصة به، وكأنه العرش الذي عليه يجلس بكل وقار واحترام، وله غطاؤه من الحرير الشفاف، يرفع كما ترفع الستارة عن شاشته ساعة بدء البث، وتنزل كما تنزل ستارة المسرح بعد نهاية العرض/ الإرسال.
كان وزن الجهاز ثقيلاً جداً، يساعد الجيران بعضهم البعض في حمله إلى الطوابق العليا، كان ثقيلاً فعلاً، لم تكن هناك لوحة التحكم عن بعد لاختيار القنوات كما هي الحال اليوم، ولم تكن هناك أصلاً قنوات للاختيار، قناة يتيمة واحدة تظل عليها البرمجة منذ الاقتناء، كنا نحتاج أن نكبس على زر واحد حين التشغيل والكبس عليه ثانية حين نهاية البث لإطفائه. ولم يكن لأي كان الحق في القيام بمثل هذه المهمة الأساسية “التشغيل والإطفاء”، فهناك شخص واحد له هذه السلطة هو الأب أو مرات الأخ الأكبر. كل شيء بوقته ولصاحبه.
اليوم وبعد أن تغير شكل جهاز التلفزيون وأصبح عبارة عن شاشة رقيقة جداً ومن دون ظهر، وبعد أن أصبحت لوحة التحكم يتم تشغيلها حتى بالصوت من دون اللمس أصلاً، وأصبحت القنوات بالآلاف، بكل اللغات، تشتغل على مدار الساعة من دون توقف، قنوات للأخبار وأخرى للفن وثالثة للمنوعات وأخرى للتاريخ والجغرافيا وأخرى للسياحة والطبخ وأخرى للثقافة وعرض الأفلام السينمائية… قنوات مفتوحة للعامة وأخرى للاشتراك وثالثة مقرصنة… اليوم بعد كل هذا يموت التلفزيون الذي كان يجمع الأسرة ومرات حتى الجيران…
يموت التلفزيون ليرثه الهاتف الذكي، ليرثه الإنترنت، لترثه قنوات “اليوتيوب”، اليوم بعد موت التلفزيون يتفرق الجميع من أمام “العرش”، وتنزل الستارة على الشاشة الأسرية لتعلن بداية مرحلة وعصر جديدين من التثقيف: “تثقيف فردي”.
لقد أصبحت لكل واحد شاشته الخاصة به في هاتفه، يتابعها في العمل وفي البيت وفي السرير وفي الحديقة وساعة الأكل وساعة الرياضة. وأصبح بإمكان أي أحد أن ينشئ قناته الخاصة عبر “اليوتيوب” ويقدم فيها ما يبدو له وما يحلو. وأصبحت الأسرة الواحدة ترتبط بمرجعيات ثقافية متعددة، فهذا يحب آخر المستجدات في الفن الأميركي، وهذه تحب آخر مودات الألبسة وثالث مهووس بنجوم الرياضة وكأنهم أصدقاء الحي، وهذا منشغل بالسياسة غارق ما بين القضية الفلسطينية وحرب أوكرانيا وحرب الطاقة وثالث منشغل بالدعاة وبخطبهم وبالساعات الجميلة الفارهة التي على معاصمهم، كل هذه الأمور يتابعونها على هواتفهم ويتقاسمونها مع الآخرين في أقاصي الدنيا في رمشة عين.
وأمام موت التلفزيون ونهاية زمن مذيعة الربط الأنيقة التي كانت تعتبر واحدة من أفراد الأسرة، ينتهي عصر ثقافي بكامله، بما كان يحمله من قيم جمالية وفلسفية وسياسية واجتماعية، تنتهي ثقافة ومعها يسقط أسلوب ثقافة وتتلاشى شبكة علاقات ثقافية اجتماعية. وحين “يتفرق” أفراد الأسرة من أمام الشاشة الصغيرة، يتفكك المجتمع ويدخل في زمن “مغامرة” الفرد الثقافية السيكولوجية والسياسية والدينية بكل ما تحمله من أخطار ومخاوف.
إن موت “صندوق العجب” هو موت طبيعي ما في ذلك، كموت أشياء كثيرة ارتبطت عبر العصور بالتثقيف والثقافة، وكانت من دعائمهما كورق البردى والآلة الكاتبة الميكانيكية والأسطوانات الغنائية والشريط المسجل وغيرها، وهو قدر تاريخي لا يمكن رده، لكن من حقنا أن نتساءل عن طبيعة وسائل التثقيف المعاصرة التي تبلع الجيل الجديد والأجيال القادمة، ناشرة ثقافة تتميز بكثير من الأنانية والتوحش الفردي، وتغلب عليها قيم الاحتفاء بالحياة الافتراضية الباردة بديلاً عن الحياة الإنسانية الدافئة.
لقد مات التلفزيون! مات “صندوق العجب”!
المصدر: اندبندنت عربية