نور هشام السيف
بور سعيد – المرساة
لا نعبر جميعنا الحدود بنفس الطريقة، فاللحدود خارطة تذكر كلًا منا عن ماهيته الاجتماعية والثقافية والطبقية مرورًا بالأصول والنسب والانتماء الأسري ولون البشرة.
بدأت الرحلة في بور سعيد مع الفتى السكندري الأصل لأسرة من الطبقة العاملة، تعرض الفتى – آنذاك – (أحمد فوزي صالح) لصدمة مبكرة وهي فقد الأب، وهي ذات المرحلة العمرية التي تفتحت أمامه أفكار اليسار بعد انضمامه إلى التجمعات الأدبية.
قبل ذلك، كان فوزي مثل أغلب الفتيان من الطبقة العاملة في سنهم الحالمة، يتطلعون نحو البطل الشعبي والمتمثل في أفلام عادل إمام أو أفلام “أميتاب باتشان” على أنهما النموذج الأقرب لأحلام الشباب وانتصاراتهم للعدالة المنتظرة.
تقاطعت تلك الصورة النموذجية أيضًا مع أفلام يوسف شاهين وخيري بشارة.
يؤكد فوزي أنه كان يحب الاسمين بلا سبب جلي، فكلما تم عرض فيلم ما لأحدهما، يستطيع التمييز بفطنة إن كان هذا الفيلم شاهيني البصمة أم لا.
معللاً في هذا الشأن: لقد رأيت ذاتي المستقبلية من خلال “محسن محيي الدين” في فيلم (اسكندرية ليه).
مجرد شاب عادي يحلم بدراسة الفن ويتحدى ظروفه ووضعه الاجتماعي، لا تزال هذه الشخصية هي المفضلة لدي لم تتراجع بتقادم السنوات والخبرة والممارسة.
سينما على جناح يمامة
بالتزامن مع مرحلة التنقل بين الحركات اليسارية كان فوزي كقطعة الإسفنج التي تمتص كل ما يطرح من فلسفيات ومعارف وأدب؛ تذوق فيها الفن الكلاسيكي والفن التشكيلي وكيفية مناقشة رواية ما.
أنشأ أول قصيدة بعمر 14 عامًا متأثرًا بالشاعر أحمد فؤاد نجم. لم يكن مدركًا أكان ما فعله هو بمثابة شعر وأنه يصب في محراب القصيدة، أم هو خلاف ذلك! لكنه وبجموح المراهقين مارس التجريب الإبداعي غير آبهٍ بهندسة المراحل لا في ذروتها، ولا حتى في صورتها النهائية.
خلال تلك الفترة أيضًا قرأ رواية “ورود سامة لصقر” للروائي أحمد زغلول الشيطي، وشعر حيالها بإحساس غريب تجلى لاحقًا بعد نضوجه واستقلاله المهني.
وفي عام 1998 يلتقي فوزي مع الكاتب المحمود إبراهيم بعد عودته من إيطاليا ومعه ألف فيلم من إفريقيا وإيطاليا وأميركا اللاتينية.
يوضح فوزي هذه اللحظة الفارقة: كانت فكرة مقاهي الفيديو منتشرة جدًا، العروض فيها مستمرة 24 ساعة ولا نملك أمامها رفاهية انتقاء الفيلم الذي نود مشاهدته كأفضلية. لكنها في ذات الوقت عروض سينمائية مغايرة عن تلك التي نراها في سينمانا؛ سينما مختلفة في الصورة البصرية من حيث الأفكار.
ولأنني تأسست معرفيًا بشكل جيد.. فقد كنت أفهم في لغة هذه الأفلام.
يسترجع فوزي تلقيه لهذه اللغة السينمائية الجديدة: “أنا ومن معي نعيش حكايات لا نراها في أفلامنا، لكني رأيتها في سينما الجنوب. هؤلاء يشبهوننا أكثر، والأجمل أن هناك شعرًا فيما أراه رغم عدم وجود عناصر جمالية بالتصور الباهر”.
في هذا السياق لا يتبقى للفتى الطري كي يتأكد من أن ثمة عالمًا ما خارج الحدود التي عرفها. غير أن تلك الحدود ما فتئت أن اقتحمت مخيلته بكيفية شعرية تنضح صورًا بصرية متحركة وحيَّة.
ملائكة الدرب
يشدد فوزي على أنه كان محاطًا بملائكة وليسوا أصدقاء عاديين، فلولا مساعدتهم المادية والمعنوية لما وصل إلى ما هو عليه الآن.
ملائكة حصنته طوال فترة اليفع من السير نحو الطرق الاعتيادية وهي تراه يملك القلب الشجاع والروح المخلصة لقضايا الهامشيين، وأهم من ذلك امتلاكه العين القناصة.
حثَّه رفاقه على وجوب دراسة السينما، كان عليه إنهاء دراسته الجامعية في بورسعيد أولًا. تعطلت دراسته لفترة وجيزة بسبب تعرضه للتوقيف أثر مواقفه اليسارية.
لربَّما محطة التوقف تلك تبدو عابرة، لكنها منحته شفافية الوضوح والإدراك بأنه ليس سياسيًا، ولن يكون!.. لا علاقة له بالسياسة كخطاب، فالخطاب السياسي ينطوي على أسس ثابتة تتطلب تغييرًا آنيًا وفعليًا، بينما فوزي لا يملك موقفًا يقينيًا باتجاه الكون ولا باتجاه ذاته.
يؤمن بأنه من السهل عليه أن يفكك هذا العالم؛ بيد أنه من الصعوبة، لا بل من المستحيل تغييره.
تخرج فوزي بسلام، ثم بدأ البحث عن الوظيفة، لكنه فشل في الاستقرار المهني ولم تكن الفرصة مواتية، فما كان عليه سوى الاستماع مجددًا لحدس الأصدقاء وتوجيههم النبيل، فشد الرحال إلى معهد السينما.
الفردوس المفقود
سافر أحمد فوزي صالح إلى القاهرة عام 2004 كي يسجل في معهد السينما.. محملاً بأحلام رومانسية وتصورات وردية على أن المعهد هو الفردوس الفردي والمسكن الآمن لطموحات وآمال الطلاب المنسوبين إليه. لكنه أدرك فورًا أنه كان يحمل صورة طوباوية مخالفة للواقع الجاف، فخفتت اللهفة سريعًا.
يسترجع فوزي إحساس الغصة: “كانت أسوأ أيام حياتي، العالم الذي كنت أتطلع إليه غير موجود! وأغلب من هم في الداخل يبحثون عن وظيفة مضمونة، فنحن إزاء قنوات فضائية تتوسع.. الأكاديميون أنفسهم لا يؤمنون بالمنهج! أساتذة يفتون بأن الفن حرام! ويريدون من منسوبي المعهد صنع أفلام (نظيفة)”.
تجلت الأزمة أمام فوزي بمشاهدها المتلاحقة، لقد انهدم سقف الفردوس سريعًا وتحول المكان في عينيه إلى جحيم، هنا قذف فوزي بنفسه في أتون المعركة! معركته مع زملائه من جهة، ومعركته مع أساتذة المعهد من جهة أخرى. فإذا به وسط قافلة كبيرة من السلفيين؛ سلفيين حتى لو لم يطلقوا اللحى! فكانت النتيجة أنه لم يحصل على تقدير جيد كي يكمل في السلك الجامعي.
عاش فوزي التلميذ والمغترب في العاصمة إحباطات متتالية إذا ما استثنينا اللحظات الفارقة وسط تلك الإحباطات، وهي وقوف المثقفين والأساتذة في معاركه الداخلية ومساندتهم المعنوية مثل الدكتور وائل غالي، وصلاح الراوي.
استمر الواقع الداكن والطافح أمامه غير متطابق مع طبيعة النظرة التي كان يرى بها عالم السينما، هذه النظرة تغلبت على كل ما تبقى ولخصها في تعويذة تساعده على النهوض: “أنا هنا لا أمثل نفسي.. أنا أمثل أولئك الملائكة الذين تركتهم في بورسعيد وصوتهم يصدح في أذني لا تتوقف! أكمل”.
سجن بلا قضبان
فور التخرج عمل فوزي في عالم الإعلانات التجارية كما عمل مساعد مخرج مع عدد من المخرجين.. وحينما أتم السابعة والعشرين جاءت خطوة الزواج، يقول وهو ممتلئ بالامتنان: “تزوجت (إيمان) بعد قصة حب أسطورية وبدون التفكير في فوارقنا الاجتماعية، إيمان امرأة عظيمة ونبيلة لم تطلب مني شيئًا ولم ترهق ذاتي المتعبة تجاه الحلم وطريق الوصول”.
بيد أن الزواج والإنجاب منظومة بحاجة إلى رعاية نفسية سليمة وحماية مادية مضمونة، وفقدان هذين العنصرين أو ذبذبتهما – على أقل تقدير – جعل إقصاء المشروع الأساسي من ذهن المخرج الطموح هو الوسيلة الناجعة لمواصلة البقاء، لكنها في المقابل بطاقة الدخول إلى سجن كبير بلا قضبان.
هذا السجن بدأ يضيق عليه رويدًا رويدا، ففي نهاية يوم طويل من أيام التصوير جلس جانبًا وأخذ يبكي لشعوره بعدم الانتماء!
لم يشعر فوزي بذاته في هذا العالم التقليدي، اهتزت لديه الرؤية وتشتت البوصلة، أخذ يتساءل أكان ما يقوم به على صواب أم خطأ! سافر إلى الخليج للعمل وتعثر ثم أيقن أن التجربة لن تفضي إلى شيء.
قرر العودة لرواية “ورود سامة لصقر” وتحويلها إلى فيلم، لكن المشروع تأجل؛ فلا تمويلات يمكن الحصول عليها أمام اسم مغمور لا يملك في أرشيفه مشاريع مستقلة سابقة.
المعمل
أدرك أحمد فوزي صالح أن ما حدث معه بعد هذا الاهتزاز كان مجموعة من الصدف مع رغبات أصيلة في داخله.
التقى حينها بالمخرج المستقل (إبراهيم البطوط)، ونصحه بإخراج فيلم. تحمَّس فوزي رغم جهله بصناعة سينما خارج منظومة الأطر التقليدية التي تلقاها في المعهد.
ومع ذلك بدأت الرحلة وتعلم فيها بعناصر مساندة، منها عمله مع رشيد مشهراوي، والمنتجة شيماء يحيى، واقتراحات إبراهيم البطوط، والتوجيه والإرشاد من شخصيات تنتمي إلى دائرة الفنون والكتابة أمثال: عادل السيوي، وسيد سعيد، ووائل عبدالفتاح.. فكانت الخطوة مع الفيلم التسجيلي (جلد حي).
لقد صنع الفيلم دون وعي كامل بحيثيات التنفيذ؛ الأفكار تستحدث وتتغير أثناء عملية التصوير. فاستمرت صناعة الفيلم عامًا كاملاً، وبعد عرضه حصد جوائز عديدة وسرعان ما فتحت تلك الجوائز تشريع الأبواب للرحلة الثانية والمؤجلة: “ورود سامة لصقر”، التي اختزل اسمها إلى “ورد مسموم”.
في بداية رحلة “ورد مسموم” كان فوزي واعيًا لمشاكله ونقاط ضعفه السينمائية.
تساقطت بعض الشخصيات في الرواية من يده بوعي كامل منه، واختزلها في شخصيتين محوريتين، ذلك أن نفوره من تجسيد أي عالم برجوازي جعله يخون الرواية خطوة بخطوة ويخلص لمشروعه هو.
فكان يكد ما وسعه الكد؛ كي لا يصنع أية صورة قادمة خارج حدود خياله البصري.
لقد استخدم في هذه الرحلة المطولة من اختمار الفيلم كل ما أتيح له لاعتراض سبيل العادي والمألوف حتى ظهر الفيلم بعد مراحل من البناء والهدم عام 2018.
ورد مسموم قصيدة تصوف
من مهام الفن أن يطرح الأسئلة وليس الحل للغز جديد تفك طلاسمه بالخطابة والإنشاء، وإن بقي أمره من طبيعة روحية، لكن في صورته الإجمالية لا يلمس بشكل دقيق الواقع المعاش.
فيلم “ورد مسموم” خلق معادلة الجمال من عمق القبح؛ لوحة تشكيلية متحركة تنبض بالرقة والرهافة وهي تسرد بشح الكلمة وتكرار المشهد قسوة الهامش ومرارة العيش. ولأن أحمد فوزي صالح خلق في الفيلم جماليات تخصه هو، فقد ولد من خلالها أسئلة حول العلاقة الثنائية في قصة الفيلم بين الأخت وأخيها. ربَّما يؤول سبب ذلك إلى (النظرات الشبقة) من قبل الأخت، بينما يصورها قائد العمل على أنها عبادة خالصة للكيان الذكري. فعندما يتم تصوير مشاعر فطرية بين شخصيات غير برجوازية يتم إسقاط مفهوم الحب البرجوازي على شخصيات لا تنتمي إليه.
يواجه فوزي الأفكار الملتبسة حول تلك العلاقة بقول لا تردد فيه: “مشكلة السينما أنها أداة برجوازية بالضرورة! ولدي من الشجاعة والجنون أن لو كان الفيلم يتحدث عن زنا المحارم لأعلنت، فليس لدي شيء أخسره.
أنا مدرك تمام الإدراك أن الفقراء يحبون بعضهم البعض حبًا عاديًا. وهذا رغم بساطة الأمر في الواقع، فإنه معقد ويفتقر إلى الإثارة في نسيج القصص السينمائية التي اعتدناها”.
قطف البساتين
عُرِض الفيلم في العديد من المهرجانات الدولية وحصل على 17 جائزة، ورُشِّح لتمثيل مصر في تصفيات الأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم للقائمة النهائية التي تتنافس على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي.
ثم تلته تجربته الثانية وهو فيلم “هاملت من عزبة الصفيح” الذي اختير، مؤخرًا، ضمن 15 مشروعًا مشاركًا في منتدى دعم الأفلام في مهرجان “كان”.
الإجماع على استحقاق نجاح فوزي في المحافل المختلفة يأتي على خلفية امتلاكه عالمًا بصريًا خاصًا ولغة أصيلة لا يسرق لقطتها من أحد.
واليوم دونما ضجيج أو صخب يمارس أحمد فوزي صالح، التجريب وبذات المسافة الزمنية التي يختمر فيها مشروعه الخاص، وقد تأخذ التجربة الآتية سنواتها اللازمة. لكن ما هو أهم بالنسبة له أن يستمر في مشاريعه المقبلة بانحياز اجتماعي للعالم الهامشي حتى إن كان في الوضع الآني لا ينتمي إليه.
يؤكد على ذلك بالقول: “أنا الشخص الذي تكون في رحلة هذه الحياة المتعبة من الطبقة العاملة، لذلك أريد دومًا أن أروي ما أعرفه وأحسه وأراه”.