نور هشام السيف
طلقة رصاص كان دويها صاخبًا وفتاكًا، طلقة استقرت بعد عراك وعن طريق الخطأ جهة القلب. كان من الجيد أن استقرت هناك كي تسد أبواب المقاومة! يرى البطل الطريدة وهي تلتوي قليلاً غير مبال، تناديه… يدنو منها… تهمس له بأنفاس متقطعة: الولد… مش… ابنك! ثم تقع جثة هامدة عند بداية السُلّم. بعد ثوانٍ معدودة يظهر «صديق البطل» متخلصاً من بقية الأشرار. يمر بجانب الجثة، يدخل الغرفة المُجاورة، يباغت الحبيبين في لحظة عناق حميمة ويهلل فرحًا: بالهنا والشفا!
انتهى.
كانت تلك نهاية فيلم «غلطة حبيبي» (1958) عندما شاهدته للمرة الأولى في مرحلة الطفولة كما اعتدت مشاهدة الأفلام الكلاسيكية على اختلاف مُصنفاتها العُمرية. وككل الأطفال الحالمين، تبقى نهايات الأفلام السعيدة هي الانتصار المنشود الذي نرتضيه ونحن نراقب خلو الكوكب من المكائد، وهي أيضاً نهايات مريحة للجمهور كلما غادر القاعة وغادر معه التوتر والجدال المحموم والظلم الجائر بسعادة الأخيار ومباركة مُظللة من ذويهم. حبكة مُفرطة في الشاعرية، لو قُيض لها أن تتحقق على أرض الواقع لما كانت السينما الحُلم!
إن سينما الأبيض والأسود في صورتها الإجمالية هي سينما رومانتيكية لا تخلو من بعض المُنغصات وبعض المشوّقات: صراعات ومؤامرات، مكر نسائي وأحقاد خفية، أغنيات واستعراضات راقصة، عراك أيدي، مطاردات، اشتباكات مسلحة، سقوط أشرار، أجساد مترامية ووصول فرق الإنقاذ، وأخيراً أحضان دافئة غالباً ما يباركها صديق البطل برفع الرايات البيضاء مستبشراً بالخيرات والمسرات.
فمن هو هذا الصديق في زمن الأبيض والأسود؟ وما مدى تأثيره في بناء الفيلم؟ في الأربعينيات كان صديق البطل في السينما يعمل على تنشيط تلبية احتياجات الغير بلا مقابل. هو داخل الشاشة وخِطابهُ خارجها، كونه مصدر الثقة الاجتماعية. وهو يمثل لحظة استعداد مُبهجة وطوعية، فعالية عاطفية وطاقة زائدة أمام الهزيمة والشكوى وقلة الحيلة.
الصديق هنا شخصية على الهامش، لا تعلو ولا تهبط، مهمته تكريس قيمة الصداقة المُثلى أمام انهيار القيم وانحسار المبادئ. وكونه هامشياً فهو بطبيعة الحال محمي من الأفخاخ، لا يلتاع من العشق، بيده تسريب الضوء كلما اتجه فتى الشاشة نحو نفق مظلم.
تتوافق هذة السمات مع التركيبة الموجودة في الأفلام الغنائية والتي تزامنت مع المرحلة الملكية. أبرز نماذج أصدقاء البطل في هذه المرحلة اسماعيل ياسين، سعيد أبو بكر وشكوكو.
انطلاقة إسماعيل يس في دور صديق البطل أخرجته فيما بعد من هذه الدائرة ليصبح بطلاً في حد ذاته. استقطب إسماعيل يس جمهوراً عريضاً بعد سلسلة أفلام حملت اسمه. هذا الاستقطاب قلب المعادلة في تحويل فتيان الشاشة إلى شخصيات مُساندة له، مثل كمال الشناوي في «اسماعيل ياسين في بيت الأشباح» (1951)، أحمد رمزي في «ابن حميدو» (1957)، ورشدي أباظة في «المجانين في نعيم» (1963).
نحن أمام عذابات عبد الحليم حافظ وإحباطات فريد الأطرش ووقار حسين صدقي وجدية عماد حمدي وجاذبية كمال الشناوي. فلا مكان لوهن ولا حزن ولا تشاؤم صديق البطل. الصديق هنا لا يملك رفاهية اللحظة الإنسانية، لحظة الخروج من ثوب الوسيط «المُبهج»، لحظة الغضب، لحظة الشعور بخيبة أمل مريرة، ممارسة الأهواء بلا كوابح، الشرود، الخذلان، أن يؤدي بعينيه في اللقطة الحرجة وينطق بها في مشهد صامت. أن يقبل حبيبته قبلة لا تنزعها بهلوانية الأداء! ماذا لو اجتمع ذلك كله في الصديق؟ ما الذي سيتبقى للبطل من ملامح سوى وسامة المُحيا؟
تلك السمات الانفعالية للصديق بحلوها ومُرها لم تكن مُغيّبة تماماً في فترة الخمسينيات، لكنها جاءت في سياق مختلف أقرب إلى الصراع على قلب فتاة، كما في حالة أحمد رمزي في «صراع في الميناء» (1956) وعمر الحريري في «غصن الزيتون» (1962). ومع ذلك هي سمات غير موائمة للسياق النمطي في الشخصية الهامشية المتخففة من كل ماسبق أعلاه.
إن الإضافات الانفعالية لصديق البطل هي إضافات باهظة الثمن، تدفع المؤلف إلى التورط في هدم الملامح المؤسسة مسبقاً في بنية شخصية الصديق من المهارات التنظيمية، والنكتة الحاضرة، وإدارة الوقت والطرق الحيوية في الصُلح بعد الخلاف والشقاق بإيجابية مفرطة لا تخلو من الفكاهة (عبد السلام النابلسي نموذجاً).
هذه التركيبة الفردانية في جوهرها لا تخاطب الطرف الآخر في الحكاية بل هي صوت الطمأنينة للمتلقي وهو يتلقف الأحداث المريرة.
نهاية الخمسينيات ومطلع الستينيات
الأصدقاء في السينما فتيان طيبون، يشكلون منفردين أو مجتمعين ظلال الحياة الخاصة بالبطل، مواردهم المادية قليلة. لا يملك الصديق دوماً ما يتوجب عليه أن يقدمه، لكنه يملك التفكير بذهنية مُتقدة فيما عليه أن يفعل. الشخوص الثانوية هي مصدر التفكير المنقذ في السيناريو وهي سفينة النجاة المضمونة من النهايات الدرامية غير المحببة.
فكرة الصديق شعلة حاضرة في صوت الضمير. أبرز من قام بحمل هذة الشُعلة هو الفنان (عبد المنعم ابراهيم). أدى عبد المنعم ابراهيم المهمة بتوازن بين مُجاراة البطل في اللهو وسوء الفعل مع إيقاع الصوت الكاريكاتوري، ثم التحول إلى ممارسة الخطاب الطُهراني قبل التوغل في المعاصي وبكثير من المُحاذرة والخِفّة.
استمر عبد المنعم ابراهيم لعقدين من الزمن صاحب البورتريه المُوَحد لمخرجين غير مُوَحَدين، مخرجين مختلفين ومتنوعين في مدارسهم وريادتهم الفنية. على سبيل المثال: «انت حبيبي» (يوسف شاهين، 1957)، «لواحظ» (حسن الامام، 1957)، «هذا هو الحب» (صلاح أبو سيف، 1958)، «حبي الوحيد» (كمال الشيخ، 1960)، «أنا وبناتي» (حسين حلمي، 1961)، «الزوجة 13» (فطين عبد الوهاب، 1962).
ليس بيد كل من عبد المنعم ابراهيم وعبد السلام النابلسي واسماعيل ياسين المساحة المرنة، فلا يتطلب الدور أكثر من إطلالاتهم المعهودة، فشخصية الصديق الصدوق في السينما المصرية والتي برز فيها الفنانون الثلاثة، قد أرست دعائمها وتم نحت ملامحها والتحمت بعد تراكم حضورهم المُلطِف.
في مطلع الستينيات، استعان الأخوان ذو الفقار بالفنان فؤاد المهندس كنكهة مستحدثة وجديدة في مساندة فتى الشاشة. كان فؤاد المهندس معززاً للصورة النمطية في محدودية دور صديق البطل مع إضافات تقنية في الأداء صنع فيها خلطة التناقضات الجاذبة والقدرة على القفز بينها بتلقائية وسلاسة كالجِدّيّة الساخرة، الوعظ دون المغالاة في المنطقية، الحلول التشاورية غير الحاسمة، نبرة صوت حازمة لوامة، ومداواة العاطفة مع ترك النفس وقتاً لتحزن فيه.
هذه الصفات تسير بالتوازي مع درامية الحدث كي تتسع نحو نهايات محتملة وغير حتمية، كما في «نهر الحب» (عز الدين ذو الفقار، 1960)، «بلا دموع» (محمود ذو الفقار، 1961)، «موعد مع الماضي» (محمود ذو الفقار، 1961)، «الشموع السوداء» (عز الدين ذو الفقار، 1962)، «المتمردة» (محمود ذو الفقار، 1963).
تنتهي سينما الأبيض والأسود بالتدريج مع نهاية الستينيات، ويتكلل ختامها بظهور صديق جديد للبطل هو عادل إمام.
بنى عادل إمام على خُلاصات الصفات التي آلت إليها شخصية الصديق في ملجأ صلاح ذو الفقار والذي كون معه ثنائية قصيرة متناغمة. تنبه عادل إلى تجربته المسرحية مع أستاذهِ فؤاد المهندس في دور دسوقي أفندي في مسرحية «أنا وهو وهي» (1964).
أدرك عادل إمام لاحقاً أن كل ما يُمكن أن يُضاف إليه سوف ينتقص منه. تجرد عادل السينمائي الواعد ومؤدي الأدوار الثانية من الكليشيهات، فظهر كرجل عادي وأستطاع أن يخط بمنتهى العادية المشوّبة بخجل البدايات كوميديا الموقف، وبكثير من العفوية والمُؤازرة التي يتطلبها الدور في أن تسير الثنائية على ما يُرام… وقد كان.
المصدر: citylightsposters