سوليوود ( الأردن)
في أعمالهم الأولى، يحاول المبدعون، بدافع الحماسة، أن يقولوا كل شيء دفعة واحدة. وهذا ما قد يؤدي غالباً إلى شيء من الرداءة في تلك الأعمال. المخرج والكاتب رفقي عساف، في فيلمه الروائي الأول «المنعطف»، لم يشذ عن القاعدة أعلاه ففعل ما يفعل الشباب في بواكير أعمالهم، لكن من غير أن يقع في فخ الرداءة. ذلك أنه يومئ للقضايا التي تناولها الفيلم إيماءً. والممثلون، ولاسيما البطل الرئيسي، راضي؛ يوحون ويلمّحون أكثر بكثير مما يفصحون ويصرحون. أي أنه ابتعد عن المباشرة والخطابة، وهذا بالضبط ما يجعل الفن فناً كما ذكر موقع الدستور.
فأنت في «المنعطف» تستطيع أن تغرف ما شئت من قضايا: احتجاج ضد الراسمالية، فلسطين، المقاومة، الهوية، الاغتراب العزلة، الحب، السلطة، الذاكرة، النسيان، الحيرة، القلق الوجودي، الفقد… إلخ. لكنّ هذه كلها تتشكل من بنيان مستلّةٌ حجارته من مقلع واحد فلا يشعر المشاهد بتشتت الأحداث أو تشعّثها.
يبدو من المشاهد الأولى أن شخصيات «المنعطف»، التي تلتقي في ميكروباص فولكس فاجن، تسير في خطوط متقاطعة، لكننا سنعرف لاحقا أنها تسير في خطوط متوازية. بمعنى أن القصة هي في الحقيقة مونولوغ يدور في خيال البطل راضي. فكأننا إزاء «فيلم» يخرج من بطن فيلم. «مخرج» «الفيلم» الأول هو راضي ومخرج الفيلم الثاني (الحقيقي) هو رفقي عساف.
لكنْ مع ذلك، لا يقوم عساف بمباغتتنا بأن ما رأيناه إنما هو خيال راضي في غيبوبته، بل يمهّد لذلك بواسطة الترجيعات أو الفلاش باكس التي تُجلي بعض الغموض، وتكشف أن هناك أمراً ما وراء الأحداث.على أن خيال راضي ليس مجرد خيال أو بلا معنى. بل هو «شكل» أو قالب سردي اختاره رفقي عساف بوعي لكي يوسّع الرقعة التي أراد أن يتحرك فيها، على الأرجح، فيكون لديه مساحة أوسع من الحرية تتيح له أن يقول كل ما يرغب في قوله، معوّلاً أو متكئاً على خيال راضي. فهذا الأخير رجل غامض ووحيد، يطوي نفسه على نفسه كما تُطوى الرايات البيضاء بعضها على بعض بعد الهزيمة. حذر وكتوم وليس من السهل الدخول إلى عالمه الذي يرعاه ويحرسه بعناية، بل إنه حتى لا يحب أن يطلّع الناس على كتبه وعلى ما يقرأ. قليل الكلام والابتسام، واجم أبداً وشارد الذهن لكن من غير أن يعني ذلك أنه غافل عما يدور حوله، بل ربما يكون العكس هو الصحيح. فهو من ذلك النوع الذي خبر الحياة وعرف كل شيء، لكنه رغم ذلك، أو ربما بسبب ذلك، لا يقول الكثير ويكتفي بالصمت الذي يخبّئ وراءه صرخة عظيمة.
وإذا كانت شخصيات «المنعطف» الأربعة تنحدر من خلفيات اجتماعية وسياسية وربما دينية مختلفة، إلا أنها في مجملها تنتمي للطبقة الوسطى أو الوسطى الدنيا. أما الجامع الأكبر في ما بينها فهو أنها جميعها، إلى هذا الحد أو ذاك، ضحية لنظام الهيمنة العالمي. فراضي، السائق الأردني الفلسطيني أو الفلسطيني الأردني، نستدل على حاله البائس من شعره غير المصفف ولحيته الكثة وباصه الذي يتخذه منزلاً. وليلى، الشابة الفلسطينية السورية من مخيم اليرموك، نعرف من هندامها البسيط ومن مهنة والدها، الميكانيكي، أنها أحسن حالاً بقليل من راضي. وحتى سامي، اللبناني، وإن بدا أنه ميسور أكثر من ليلى وراضي، إلا أن مجرد انتقاله من لبنان للعمل في الأردن بعد حرب تموز عام ????، وتذمّره الدائم من منطقتنا ورغبته في مغادرتها؛ أمارات على سوء أحواله أو على الطبقة التي ينضوي فيها. أما الشرطي، فيكفي لمعرفة موقعه الاقتصادي أن نعلم أنه أوقف الباص ليحصل على «توصيلة» مجاناً.
التقاء الشخصيات الأربعة في الباص، «مصادفة فنية» أي تنتمي لتلك المصادفات التي يكون لكاتب السيناريو (وأي كاتب سيناريو) الحق في الانطلاق منها. لكنّ انتماءهم لبلاد الشام ليس مصادفة. فكأنّ عساف، وراضي أيضاً (ذلك أن عساف يسرد على لسان راضي) يشير إلى المصير المشترك (ولو أن السياسيين في منطقتنا ابتذلوا هذا المصطلح!)، وأن لا خلاص لهذه المنطقة إلا بوحدة بلاد الشام، وأن الوحدة هذه هي الطريق التي سوف يهتدي بها ومنها راضي الحائر في هويته (فهو حين سُئل «من أين»، أجاب «من هون»)، وهي التي ستعيده إلى فلسطين.
ليس في هذه الفكرة جديد خارق، لكنّ الجديد ربما في «المنعطف»، هو تعويل المخرج على السرد البصري أكثر بكثير من تعويله على الحوارات التي جاءت في معظمها شديدة التقشف. فحين ينطلق الباص من عمان باتجاه إربد، تلعب التكوينات البديعة دوراً راجحاً في إيصال المعاني. ففي لقطة شاهقة، نرى الباص كنقطة تسير كنملة وسط الجبال القاحلة، كناية عن قساوة هذا العالم الذي يطحن «سكّان» الباص. بل أكثر من ذلك، في اللقطة نفسها، تبدو الطريق المتلوّية بين الجبال فيما الباص العتيق يشقّها ببطء، لكن بثبات وإصرار، تبدو مثل ثعبان يلتف على فريسته فيطبق عليها من غير أن يستطيع خنقها. بعد ذلك سنرى كوماً من الشوك، ثم تبدأ الطريق بالانبساط والاتساع، وتحتل الشاشة سنابل قمح وزهور، وتضحي ضفاف الطريق أكثر اخضراراً كلما اتجهت شمالاً.
أما حين يصعد الشرطي، الذي يكنّي عن السلطة، إلى الباص ويبدأ بالكلام، نراه في مركز الصورة. وحتى عندما كان سامي وليلى يجيبان عن أسئلته كان هو في مقدمة الكادر ولو أنهما احتلا ثلثي الكادر. بل إن الحوارات نفسها، لم تتكاثر إلا بعد ركوب الشرطي، فكأن السلطة مبتدأ الكلام وصاحبته.
بهذا المعنى، ترفد التكوينات البصرية أحداث الفيلم وتَصاعُد حواراته. لكن التكوين الأكثر جمالاً وبلاغةً في «المنعطف»، هو أنبوب التغذية في غرفة المستشفى: نرى صورة قريبة له لا يحيط به سوى الفراغ، فيظن المشاهد أنه نهر في صحراء أو طريق، حتى تبتعد الكاميرا منه شيئاً فشيئاً لنعرف أنه أنبوب سيروم. هل قصد المخرج كل ذلك؟ أغلب الظن نعم، هذا الظن مصدره أن المخرج هو تلميذ وصديق محمد خان، ملك التكوينات السينمائية.لكن مع ذلك، كان يمكن للحوارات أن تكون أكثر غنىً وثراء مما هي في الفيلم. وإذا عرفنا أن مخرج الفيلم وكاتبه لا تنقصه الطلاقة، كتابةً وشفاهةً، نميل للاعتقاد أنه تعمّد أن تطغى الأحداث والسرد البصري وجمال الصورة (أي ما هو سينمائي جدا) على الحوارات. وسبب ذلك ربما هو أن يريد أن يبرهن في فيلمه الأول على علوّ كعبه في الإخراج السينمائي.
«المنعطف» منعطف حقيقي في السينما الأردنية على الأقل، ويستحق المشاهدة والاحتفاء به.