سوليوود «متابعات»
ربما يود المرء أن يصبح ملك اسكتلندا. وقد يغضب ويشعر بالإهانة جراء علاقات زوجته. وربما أيضاً تود المرأة أن يقوم عشيقها بالتخلص من زوجها بغية الحصول على تعويض [بوليصة] الحياة من شركة التأمين. التاريخ السينمائي مليء بعشاق مجرمين من هذا النوع – وبزيجات تخلف في طريقها أكواماً من الجثث.
ويعرض حالياً، على تلفزيون «أبل تي في» Apple TV، فيلم جويل كوون «مأساة ماكبيث» يؤدي فيه كل من دنزل واشنطن وفرانسيس ماكدورماند، دور زوجين يدبران لقتل الملك دونكان (بريندن غليسون). ويقوم المخرج كوون بإعادة تأويل مسرحية شكسبير، ويصيغها كميلودراما زوجية عن شريكين ينتهجان العنف، لأنهما فاشلان في إنشاء عائلة، إذ إن الليدي ماكبيث لن تتمكن من منح زوجها طفلاً، غير أنها توطد علاقتها الزوجية به من طريق مساعدته في الكيد للملك والاستيلاء على العرش.
عن هذه القصة تحدثت ماكدورماند أخيراً مع «إندي واير»، فروت أن مأساتها الشخصية (مأساة الليدي ماكبيث) هي التي غذت طموحها لإيصال زوجها للتاج، لأنها لم تتمكن من منحه وريثاً. هذا بالنسبة لي يشكل جوهر الشخصية.
وثمة في السياق نفسه، علاقة زوجين أكثر غرابة وفتكاً قدمت في فيلم أدريان لين المستند لرواية باتريسيا هايسميث، «مياه عميقة» Deep Water، الذي يبدأ عرضه على قناة «أمازون». إذ تؤدي آنا دو آرماس (لا وقت للموت No Time to Die) دور الشابة العنيدة والحسناء والمتعددة العلاقات «ميليندا فان آلن». ويلعب بن آفليك دور فيك، زوجها غريب الأطوار، الأكبر منها عمراً. هذا الأخير ثري، لكنه مكبوت ومتلصص – ويشارك الكاتبة هايسميث حب الحلزونات، التي يربيها كحيوانات أليفة. والطريقة الوحيدة التي يمكن لهذا الرجل الخمول أن يظهر من خلالها شغفه بـميليندا تتمثل كما يظهر بأفعال قتل جنونية. فالجرائم تصيرركيزة زواجهما.
والمنطق الكامن في “مياه عميقة” هو منطق ملتو وعبثي في آن واحد. إذ تتنقل ميليندا من عشيق لآخر بسرعة مذهلة، ولا تضيع وقتها أبداً في التحسر على شعلة إعجاب قديمة خمدت، حين تضيء [تشتعل] مرة أخرى في شخص جديد أمامها.
وفي سياق تاريخ الفن السينمائي، فإن هكذا أفلام تتناول زيجات فتاكة وإجرامية، سبقت “مياه عميقة” بزمن بعيد، وظهرت في فترة مبكرة من تاريخ السينما. وقد استند عديد من الأعمال الميلودرامية الصامتة إلى جرائم الشغف، حيث يقتل أزواج عشاق زوجاتهم. في فيلم دي دبليو غريفيث “زهرة الحب” The Love Flower (1920)، مثلاً، يضبط توماس بيفان (جورج ماكوري) حبيبته مع رجل آخر. فيقوم ذاك الرجل بسحب مسدسه ويتعاركان، يُقتل الرجل، وتجري إدانه بيفان، فيضطر للفرار. وفي فيلم تود براونينغ، المصطنع إلى حد كبير، “غرب زنزبار” West of Zanzibar (1928)، تقوم الشخصية التي أداها لون تشايني، الساحر فروسو (أو “الساقان الميتتان” Dead Legs) بقضاء سنوات في التخطيط للانتقام من كراين (ليونيل باريمور)، الرجل الذي عاشر زوجته، فتمكن في النهاية من شله، وكان سبباً في موت زوجته.
وثمة في السياق أفلام كثيرة من نمط الـ “بلوبيرد ستايل” (Bluebeard-style)، حيث تقع نسوة شابات ساذجات في حب رجال أكبر منهن سناً، ويكتشفن بعد فوات الأوان عدم وجود ذاك الدفء في قلوبهم. في فيلم ألفريد هتشكوك “ارتياب” Suspicion (1941)، مثلاً، تؤدي جوان فونتان دور فتاة ساذجة تصبح مقتنعة بأن زوجها الوسيم (كاري غرانت) يخطط لقتلها. ثم جاء فيلم فريتز لانغ “سر خلف الباب …” Secret Beyond the Door (1947) ليقدم نفس الأجواء. “هذا ليس وقت للتفكير بالخطر، إنه يوم عرسي” تقول سيليا (جوان بينيت) ضمن الخلفية الصوتية التي تفتتح الفيلم – غير أن عرسها هو بالتحديد ما يضعها في دائرة الخطر. فهي “أميرة نائمة من القرن العشرين”، فتاة أميركية غنية “عاشت حياتها متنعمة بالراحة والرفاه”، وزوجها الجديد مارك (مايكل ريدغرايف) معماري ثري يخفي أسرار شديدة القتامة. وتنتقل سيليا مع زوجها إلى بيته الفسيح الأشبه بضريح، حيث “تبدأ الجماجم بالظهور في كل خزانة صحون”، وفق ما تكتشف سيليا بعد فترة وجيزة. وعلى نحو شديد الغرابة، فإن مارك “يختار الغرف” التي تقع فيها الجرائم (وهذه ليست أمكنة جرى بناؤها، بل غرف نوم فعلية أنشئت من أغراض مرعبة تجاور بعضها بعضاً). والآن يبدو مارك أنه أعد غرفة جريمة مخصصة لها (لـ سيليا). ويستعير لانغ أجواء ومؤثرات كثيرة من فيلم هتشكوك “ربيكا” Rebecca (البيت مسكون بطيف زوجة مارك السابقة التي ماتت في ظروف غامضة) ومن سيغموند فرويد (مؤسس التحليل النفسي). وتأتي عناصر مثل مشاهد الأحلام، ولمحات خاطفة من الماضي، وموسيقى ميكلوس روزسا الملتهبة لتضيف لتلك المؤثرات المربكة، زخماً حياً. وإذاك يقول طالب علم النفس، إنه “في كثير من الحالات، يكون لجريمة قتل العشيقة أو الزوجة دوافع نفسية مصدرها مشاعر الكره غير الواعية تجاه الأم”، فيسهم هذا القول بجعل المشاهدين يدركون سبب تصرفات مارك الغريبة.
في المقابل تأتي أفلام أخرى لتكمل تلك التي يرتكبها رجال مضطربون، بقتل زوجاتهم الشابات، فينقلب الدور، وتقوم الزوجات هنا بالتآمر لقتل رجالهن. وتعد رواية إميل زولا الصادرة سنة 1868 “تيريز راكان” Therese Raquin، التي خرجت مرات عديدة للشاشة الكبيرة، واحدة من المصادر الأساسية لجميع أفلام التشويق القاتمة التي صنعت في “هوليوود”، وقامت فيها لانا تيرنير أو باربرا ستانويك بتجنيد عشاقهما لتنفيذ بعض الخطط الإجرامية، وتكبد عذابات نفسية رهيبة نتيجة لذلك.
“أنا قذرة في الصميم” [العفن في القلب] تقول فيليس ديترتشسون (ستانفيك) لعشيقها ولتر نيف (فريد ماكموراي)، مندوب شركة التأمين في فيلم بيلي ويلدر “ضمان مزدوج” Double Indemnity (1944). ويُقدّم [تخرج صورة] نيف كما لو كان ضحية، تماماً مثل زوج ديترتشسون، الذي قام نيف بقتله بطلب منها. وهي المرأة الفاتنة التي تأسره بوعود الجنس والمال. وفي قراءة مختلفة يمكن اعتبار أنه هو من دفعها إلى الجريمة التي ما كانت لتحصل أبداً لولا وجوده. “أحببتك يا ولتر، وكرهته، لكنني لم أكن لأفعل شيئاً في هذا الخصوص، إلى أن التقيتك” تقول فيليس لـ ولتر عندما لقيته بمتجر سوبرماركت في إحدى الضواحي عقب الجريمة. تضيف “لقد دخلنا (في هذه القضية) معاً وسنخرج منها في النهاية معاً”.
لكن ليس هذا ما سيحصل. إذ حتى عندما ينتهي الرجل في قفص حكم الإعدام لا تكف القصة عن الإيحاء بنزعة “ميزوجينية” (نزعة كره النساء)، إذ تلام المرأة باعتبارها سبب محنته.
في سياق آخر، فإن واحدة من النواحي الساحرة الكثيرة في هذه الأفلام التي يغدو فيها رجال وزوجاتهم قتلة، تتمثل بتفاهة حيوات أبطالها. إذ هم في الغالب من سكان الضواحي ومن شريحة الطبقة الوسطى، أو ينحدرون من أوساط اجتماعية عادية.
في رواية جايمس م كاين الصادرة سنة 1934، “ساعي البريد دائماً يقرع الباب مرتين” The Postman Always Rings Twice، فإن كورا، الزوجة الشابة التي تخطط مع المتسكع فرانك لقتل زوجها مالك مقهاها، تصف نفسها وفرانك بأنهما “مجرد وغدين”. وتصف حبهما بأنه مثل “محرك طائرة كبير، يرفعك عبر السماء إلى أعلى قمة في الجبل. لكن عندما تضع هذا المحرك في (سيارة) فورد، فإنها تهتز وتتفكك وتنفرط إلى إرب وقطع. هكذا نحن يا فرانك، سيارتا فورد. والله في العلى يضحك علينا”.
وكاين لم يكن يستلهم إميل زولا وحسب. إذ إنه في “ساعي البريد …” وروايته اللاحقة “ضمان مزدوج” استلهم إلى حد ما القصة الحقيقية المتعلقة بـ روث شنايدر وعشيقها بائع مشدات الخصر، جود غراي، الذي قام أخيراً سنة 1927 بقتل زوج شنايدر، ألبرت، بعد محاولات فاشلة عدة. وفي السنة الموالية أعدم العشيقان على الكرسي الكهربائي.
ملصق فيلم السيد والسيدة سميث (أول موفيز.كوم)
وألهمت روايتا كاين أفلاماً سينمائية عديدة، إلا أن كثيراً من هذه الأفلام تتناول قصصاً لأزواج وزوجاتهم يقتلون بعضهم بعضاً. ويمكن للمرء أن يرصد نوعاً غنياً آخر من الأفلام في هذا الإطار يقوم فيها الأزواج باقتراف الجرائم معاً، وأحياناً لأسباب شديدة الغرابة. مثلاً في فيلم بول بارتل ذي التوجه الكوميدي، “التهام راوول” Eating Raoul (1982)، يقوم الزوجان المتزمتان والمنتميان للطبقة الوسطى في كاليفورنيا (بارتل وماري ورونوف) بوضع خطة غريبة لقتل زوجين ثريين من الـ “سوينغرس” (أي الذين يتبادلون الشركاء لممارسة الجنس) وذلك للحصول على مال من أجل افتتاح مطعمها الذي حلما به. وفي فيلم “السيد والسيدة سميث” Mr & Mrs Smith (2005) يلعب براد بت وأنجلينا جولي دور زوجين يشتغلان كقاتلين محترفين – لكن بهوية سرية. (وحتماً سيكلفان في النهاية بقتل بعضهما بعضاً).
وهذا دور بعيد من بريق جاذبية براد وأنجيلينا وينقلهما إلى العالم المخيف والبارد لمن أطلق عليهما لقب “القلبين المستوحشين القاتلين”، مارثا بيك وريموند فيرنانديز، الزوجان الحقيقيان اللذان قتلا نساء عازبات تعرفا عليهن من خلال الإعلانات الشخصية. وقد ادعى الزوجان أنهما شقيقان. وكان فرنانديز يجذب الضحايا، كما قيل، وأحياناً يتزوجهن قبل القيام بسرقتهن وقتلهن. وقد ألهم هذان الزوجان عديداً من الأفلام الغرائبية، منها فيلم المخرج المكسيكي آرتورو ريبستين “القرمزي القاني” Deep Crimson (1996) وفيلم ليونارد كاستيل “قتلة شهر العسل” The Honeymoon Killers (1970).
إذن “مياه عميقة”، ليس سوى الأحدث ضمن لائحة طويلة جداً من الأفلام التي تناولت زيجات قاتلة. والموضوع يحمل بعداً عالمياً يغري المخرجين في كل مكان. وقد طرح في السينما الفرنسية بفيلم “الأشرار” Les Diaboliques (1955)، وفي السينما الإيطالية بفيلم “أوسيسيوني” Osessione (1943) (الذي استند أيضاً إلى رواية كاين “ساعي البريد دائماً يقرع الباب مرتين”)، وفي السينما البريطانية بفيلم “غازلايت” Gaslight (1944)، وفي السينما الصينية بفيلم “امرأة، بندقية، ومتجر نوديل” A Woman, a Gun and a Noodle Shop (2009). وأنيا، من “الفتاة الراحلة” Gone Girl (2014) إلى “كيف تقتل زوجتك” How to Murder Your Wife (1965)، يمكن للمرء أن يجد كثيراً من أفلام “هوليوود” التي يكون فيها الأزواج والزوجات وعشاقهم مشغولين بقتل بعضهم بعضاً، أو في التخطيط لذلك. وثمة أنواع أفلام قليلة تتمتع بالمرونة في هذا الجانب. إذ يمكن للسردية أن تذهب في تدرجها من ذروة المأساة إلى دونية الهزلية – فيما تبقى الديناميات الإنسانية من دون تغيير. فأبطال هذه الأفلام، سواء في حقبة السينما الصامتة أو اليوم في زمن منصات التواصل الاجتماعي، يتحركون عبر الغرائز الأساسية ذاتها: الغيرة، الجشع، والشبق.
وفي المتناول إخراج تلك القصص التنبيهية بتكاليف ضئيلة، كما هي الحال مع الأفلام التي تدور أحداثها في حجرات ضيقة تثير أحاسيس الاختناق، أو أن تكون قصصاً ميلودرامية مبالغة، وتحظى بميزانيات ضخمة. كما أنها تقدم في مختلف الأشكال الفنية المعروفة. وثمة أفلام تتناول حقبات محددة، مثل “ليدي ماكبيث” Lady Macbeth (2016) حيث تقوم فلورينس بوغ (Pugh) بردائها القطني بقتل زوجها المسيء. وثمة أفلام تنتهج مقاربة كوميدية، منها “جرائم وجنح” Crimes and Misdemeanours (1989) الذي يروي قصة زوج شريف يفقد عشيقته إثر جريمة قتل، وهناك أفلام اختارت وجهة درامية نفسية سوداوية، وأفلام تلفزيونية عن أزواج أو عشاق من القتلة المتسلسلين، وأفلام تشويق وإغواء. مثل هذه الأفلام تضيف نفحة ساخرة إلى حد كبير إلى نذور يوم الزفاف، “إلى أن يفرقنا الموت”. إذ في ذاك العالم الملتوي والغريب تكون الأعراس بمثابة خطوة أولى نحو الجحيم تكر بعدها سبحة جرائم القتل.
“مأساة ماكبيث” The Tragedy of Macbeth يعرض الآن على تلفزيون “أبل تي في”.