سوليوود «متابعات»
عندما باشرت بعض مهرجانات السينما الدولية برمجة أفلامها على الإنترنت، سنة 2020 واجهت سريعاً انتقادات حادة من الوسط السينمائي، خصوصاً من المخرجين فيه. هذا على أساس أن المهرجان يحرم السينمائيين المشاركين بأفلامهم من نعمة الانخراط مع الجمهور الواسع وتلقي ردود الفعل المناسبة على أعمالهم.
سبب آخر دفع بالعديد من المخرجين، خصوصاً للممانعة، هو شعورهم بأن أفلامهم صُنعت لوسيط واحد هو العرض في الصالات وأي عرض آخر، كعروض الإنترنت هو تنازل فني – تقني في الأساس. أضف إلى ذلك، أن العروض المنزلية في حد ذاتها متحررة من الجلوس طوال الوقت أمام الشاشة واحترام واجبات وتقاليد المشاهدة على الشاشة الكبيرة. لكن الجلوس أمام الشاشة الكبيرة وعدم التحرر من شروطها (لا تستطيع إذا خرجت من الصالة للرد على هاتف أو سهوت، أن تعوض ما فاتك)، لكنها هي الشروط التي كونت فن السينما والعروض، وأسست لمهرجانات السينما وجودها وحضورها منذ ثلاثينات القرن الماضي.
في مطلع ذلك العام اضطر مهرجانان سينمائيان كبيران (روتردام وصندانس)، لتحويل برامجهما إلى النت. وفي ربيعه اضطر مهرجان «كان» للانسحاب من جولة العروض بأسرها غير راضٍ، ومعه الحق، في أن يتحول إلى حدث منزلي.
في العام الماضي غاب برلين وحضر صندانس وروتردام وكان سينمائياً. وفي السنة الجارية، عاود صندانس وروتردام للإذعان لضرورات مكافحة الوباء، بينما أصر برلين على الحضور معلنا تدابير صارمة لمنع تفشي الوباء في صالات السينما.
إلى الآن لم يشهد مهرجان سينمائي من تلك المهرجانات التي تحيط بنا واعتدنا على حضورها، تفشي «كورونا» بسبب عروضه الفعلية. لا فنيسيا تأثر، ولا لوكارنو، ولا كارلوفي فاري، ولا الجونة، ولا القاهرة. كلها شهدت حشوداً من الملقحين وغير الملقحين (وعربياً بالكمامات ومن دونها) ومع ذلك لم تقع المصيبة التي ظن البعض أنها ستقع. السبب؟ غير معروف رغم أن بعض الواثقين من أن الأمور في الأساس غير واضحة، وبالتالي هي عرضة لحياكة شروط حياة جديدة على البشر في كل مكان، يعتبرون ذلك دليلاً على تبني نظرية أن المسألة بأسرها مفبركة انطلقت بتصنيع الداء و- سريعاً – تصنيع الدواء وتحويل إيراداتهما إلى الحسابات المغلقة.
خمسة أفلام
مهما يكن، ها هو مهرجان روتردام ينتقل إلى أسبوعه الثاني بمزيد من الأفلام المستقلة عن الإنتاجات الكبيرة وعن سياسات المهرجانات الرئيسية الثلاثة (برلين وكان وفنيسيا)، في اختيار الأعمال التي تعود لمخرجين مؤسسين وذي صيت وشهرة.
هنا تكمن ملاحظة أساسية أخرى، وهي أنه على عكس المهرجانات الفعلية (أي التي تُقام بجمهور فعلي من الحاضرين)، لا يمكن للمرء أن يسمع لا التصفيق ولا الصفير. لا علامات الإعجاب ولا الوقوف لدقائق احتراماً وتعبيراً عن الإعجاب المطلق. في المقابل لا ترى من سيغادر الصالة بعد قليل أو لاحقاً خلال العرض عاكساً عدم رغبته في المواصلة.
في راحة البيت يستطيع المرء أن يصفق أو يتوقف عن المشاهدة سراً، ولو أن الناقد أكثر حذراً من أن يقدم على أي من الفعلين، لا التصفيق (لا ضرورة له حتى وإن كان الفيلم رائعاً لأن الكتابة عنه وحدها هي التي ستعكس الإعجاب به)، ولا قطع الفيلم والتحول إلى سواه (كون ذلك لا يدخل قواعد المهنة وأمانتها). بذلك ما على المرء، سواء أكان حاضراً في الصالة أو جالساً أمام شاشته المنزلية، سوى المتابعة معجباً كان أو كارهاً. التالي خمسة أفلام تعكس الحالتين:
The Making of a Crime Scene ★★★
في سنة 1984 اغتيل الكاتب التايواني – الأميركي هنري ليو في منزله. أُلقي القبض على القاتل، واسمه وو دَن. وصدر حكم بحبسه لنحو عشر سنوات. لكن الرجل وجد نفسه طليقاً بقرار آخر بعد ست سنوات. لم يغادر الولايات المتحدة بل مكث فيها ووجد لنفسه عملاً جديداً إذ قرر أن يدخل مجال السينما فأسس لنفسه شركة صغيرة.
يبحث المخرج هسو تشي – يو في الجريمة التي ارتكبت كاشفاً عن أن القاتل مأجور ينتمي إلى عصابة تايوانية اسمها «يونايتد بامبو»، استأجرت خدماتها الحكومة التايوانية لتنفيذ العملية بغية إسكات الضحية الذي عرف عنه وقوفه موقفاً مغايراً (وبالنسبة للبعض كان معاديا) لتايوان.
يعتمد هذا الفيلم التسجيلي على وقائع ليس من السهل تجاهلها، بما في ذلك ملاحقته لحال القاتل بعد الإفراج عنه وتأسيس شركة إنتاج (باسم ووكسيا)، انشغلت بأفلام الأكشن التايوانية التاريخية وغابت كما غاب اسم صاحبها عن الذكر إلى أن تحدث المخرج تشي – يو عن أحداث حياته من جديد كاشفاً احتمال أن تكون الضحية لاقت حتفها بسبب مواقفها. يعكس الفيلم شخصية القاتل الذي اعتبر نفسه خادماً لبلاده بقدر ما اعتبر نفسه منتجاً لأفلام البطولة الوطنية. شيء من العبث في النظرة، لكن الفيلم يوجز مراحلها المختلفة ويصور وو دَن في الزمن الحاضر، مستعيناً بأرشيف جيد من الأمس.
The Child ★★★
روايات الألماني هنريخ فون كلايست (1777 – 1811)، لم تنتقل كثيراً إلى الشاشة الكبيرة، وما انتقل منها (دون العشرين) حققه مخرجون أوروبيون من بينهم هلما ساندرز – برامز وإريك رومير وفولكر شلندروف هانز – يورغن سلبيرغ وأرنو دس باييرس. فيلمان أميركيان فقط من نصوص كلايست هما «راغتايم» (مستوحى ومن إنجاز ميلوش فورمان التشيكي الأصل)، وThe Jack Bull المستوحى من رواية باسم «مايكل كوهلاس» حققه جون بادهام.
الآن دور المخرجين البرتغاليين مرغريت دَ هيليرين وفيليكس دوتيلوي – لياغواز في إنتاج برتغالي – فرنسي مشترك، كُتب لهما عن رواية كلايست «اللقيط» (Der Findling)، التي نُشرت سنة 1811 سنة وفاة الكاتب.
دراما تاريخية تدور أحداثها سنة 1554 حول الشاب بيلا (ياو أراس) الذي تبنته عائلة ثرية بعد اختفاء ابنها إثر رحلة قام بها إلى أفريقيا. تختار العائلة له المرأة التي سيتزوجها (ماريا ياو بينهو)، لكنه يحب الفتاة الفقيرة التي تعمل في الكنيسة روزا (إينيس تافاريز)، ما يسبب عدداً من المشاكل، من بينها ما هو نابع من الفارق الطبقي ومنها ما هو عائد إلى أن روزا توهم بيلا بالحب، لكنها ستتخلى عنه عندما يمنحها رجل آخر إمكانية العودة إلى المغرب حيث وُلدت.
باستثناء معركة يدوية من 30 ثانية، لا وجود لمعارك ولا لمبارزات سيوف ولا حتى صفعة. هناك سيف يبقى في غماده ووتيرة وإيقاع غير مستعجل. على ذلك، الفيلم آسر ومشغول باهتمام المخرجين بتفاصيل المكان وتصاميم الملابس والديكور وبتصوير ملهم من ماريو باروزو الذي هو مخرج بدوره. تمثيل جيد ضمن خطة عمل تنتمي بالفعل إلى روح أدبية واضحة. الموسيقى مستخدمة باعتدال، وعندما ترتفع حدة الدراما يستخدم المخرجان حفيف أوراق الشجر كدلالة.
في كله يبدو الفيلم، في هذه الأيام، كما لو كان آتياً من زمن آخر. ربما لو كانت هناك سينما على أيام كلايست لأنتجت السينما فيلماً يشبه هذا الفيلم.
Malintzin 17 ★
حمامة حطت على سلك الكهرباء. بنت عشها. سكنته ولم تتحرك. إنها تفكر بالوجود، لكن ليس على طريقة المخرج السويدي روي أندرسن في فيلمه الرائع «الحمامة جلست على غصن شجرة تفكر بالوجود»، لكن على طريقة هات الكاميرا، هناك حمامة أريد تصويرها.
المخرج المكسيكي يوجينيو بولغوفسكي يحقق فيلماً تسجيلياً من 64 دقيقة عن تلك الحمامة التي جلست فوق (ما يبدو) بيضة واحدة ستفقس قبيل نهاية الفيلم. يطل وابنته الصغيرة من نافذة منزله على العش ويصور الحمامة في جلستها. يصورها والشمس ساطعة ويصورها والمطر ينهمر ويصورها في النهار وفي الليل. لكنه كذلك ينوع: يصور ابنته (ويتحدث إليها مجيباً على تساؤلاتها)، ويصور الشارع تحت شرفته. يصور سيارات عابرة وأشخاصا يسيرون مع كلابهم وشاحنة القمامة وأي مرتجل أو عربة أخرى.
المشكلة أن هذا ليس فيلماً، وإن كان، فهو من أكسل الأفلام التي شاهدها هذا الناقد. أكثر من ذلك، يقول المخرج إن هذا «المشروع» بدأ سنة 2015، لكن كما يعلم جميع «كشاشي الحمام» في العالم، أن الحمامة تضع بيضها في أسابيع قليلة. في كل الأحوال هو أيضاً فيلم بلا ميزانية صوره المخرج كاملاً من شرفته (ما عد مشهداً صغيراً يلتقطه من باب العمارة).
Kafka for Kids ★
هذا الفيلم يروي حكاية ويعتمد شكل المقابلة ويزين نفسه بالرسوم المتحركة. حققه رووي (Roee) روزمان بهدف معلن في العنوان، «كافكا للأولاد». يختار المخرج الإسرائيلي رواية Metamorphosis، التي استوحى بعضها المخرج الكندي ديفيد كروونبيرغ في فيلم جيد عنوانه «الغداء العاري» سنة 1991، ذلك لم يكن اقتباساً بل استلهماً لحكاية تنص على رجل يرى نفسه حشرة. والفيلم الحالي (الموجه للصغار) يدور أكثر حول هذا التحول.
طبعاً، لو كان الفعل جيداً وموحياً ومسلياً لكسب الفيلم رهان تصديه لرواية تصعب ترجمتها إلى فيلم، لكن الحاصل هو أن هناك راويا يجلس وراء مكتب. للمكتب دوائر صغيرة يطل من كل واحدة وجه شخص يلعب بحاجبيه وبعينيه. هذا قبل وبعد الانتقال إلى دقائق من تلك الرواية وقد رُسمت في أنيميشن بدائي الفن وغير ملهم بدوره.
خلال العرض كنت أسمع قرقعة ما. أنصت جيداً، من ثم أدركت أنها صوت عظام فرانز كافكا وهي تهتز في قبره.
The Plains ★★
«السهول» فيلم غريب من تحقيق الأسترالي ديفيد إيستيل، الذي لم يسبق له الوقوف وراء الكاميرا. غريب لسببين رئيسيين: الكاميرا لا تخرج من مكانها في المقعد الخلفي للسيارة، وتصور كل ما يمر أمامها في ثلاث ساعات.
بكلمة أخرى، هذا فيلم من ثلاث ساعات على المشاهد أن يبقى حبيس مكانه تماماً كتلك الكاميرا (لسيمون وولش الذي سبق وصور للمخرج فيلماً قصيراً بعنوان «الأب» سنة 2011).
المسافة من مكتب المحامي أندرو (أندرو باكوفسكي) إلى منزله في ضواحي ملبورن. كل يوم مساء يركب سيارته ويمضي بها. يتصل بزوجته ليخبرها بأنه غادر المكتب. أندرو في الخمسين من عمره وكل ما نراه له هو وجهه في المرآة المنصبة أمامه. الرحلة التي يبدأ بها الفيلم ليست سوى الأولى. سنقطع المسافة ذاتها كل يوم. يتوقف لكي يصعد زميل له اسمه ديفيد (المخرج بنفسه) وفي كل يوم نستمع إلى حديثهما معاً خلال الرحلة.
«السهول» ليس بالفيلم الكسول كحال ذلك الفيلم التسجيلي عن الحمامة، لكنه ليس بدوره بعيداً عن هذا التموضع. الحديث بين أندرو وديفيد يكشف حياة الاثنين. ذلك الفيلم مبني على ذلك الحوار ومستجداته يوماً بعد يوم. قليل من التمثيل (أو حسناته)، والكثير من الانحباس داخل سيارة لثلاث ساعات. في البداية يبدو الفيلم مثيراً من حيث أسلوب سرده المختار. لاحقاً ما يُصاب بالتكرار وتنطفئ شمعته الوحيدة كعمل أريد له أن يكون جديداً ومنفرداً.