سوليوود «متابعات»
هناك نقاش واسع هذه الأيام، وعلى منصّة مهرجان روتردام في مناسبته الـ51 الحالية، حول مستقبل السينما عموماً ومستقبل المهرجانات السينمائية على وجه التحديد. المعضلة هنا هي كالتالي:
إذا تغير جوهر الصناعة السينمائية لتصبح منزلية أكثر مما هي عليه، كيف سيكون تأثير ذلك على سينما المؤلف والسينما المستقلة عموماً؟
هل السينما يمكن لها أن تعيش من دون شراكة المشاهدين في قاعات مخصصة؟
وما تأثير ذلك على المهرجانات السينمائية من وزن روتردام أو سواه؟ هل من المحتمل لها أن تعيش؟ ما هو تأثير الحاصل عليها وعلى السينما المستقلة؟
هي أسئلة جوهرية بلا ريب، لكن النقاش بين عدد من صانعي الأفلام (مخرجين وموزعين) وبين المهرجان تم قبل يومين على النت، ركّز أكثر على السؤال الثالث كونه يختصر الوضع والأزمة التي اشرأبت بعنقها منذ أن وطأ الوباء المستشري هذه الأرض.
كانت هناك آراء متعددة، لكن العديد من الذين استضافهم المهرجان في نقاشه، رأوا أن مهرجان روتردام عليه أن يسبق التوقعات، وأن ينفتح أكثر على السينما الشابّة وسينما المؤلف عموماً. «أكثر من ذلك؟» سألت في النقاش وأضفت «مهرجان روتردام أدّى دوره على خير وجه خلال العقود الماضية، هو وسواه. المشكلة هي فيما إذا كانت صناعات السينما حول العالم تستطيع أن تتجاوز أزماتها وبعض هذه الأزمات، كحرية الإبداع في بعض الدول والإمكانيات المحدودة لبعض الدول أو الراغبين في تحقيق أفلام خارج السائد فيها، موجودة قبل (كورونا) وستبقى لما بعده».
في هذا النطاق، ما تواجهه السينما المستقلة ليس استعداد المهرجانات لاستقبالها، بل هي الثقافة السائدة التي تتجه أكثر وأكثر صوب السينمات التجارية الكبرى. «لكن هذا كان سائداً منذ البداية»، قالت متحدّثة فصححت «كانت دوماً سائدة، لكن السينما الجادة والمختلفة تمتّعت في الستينات والسبعينات بقاعدة كبيرة من المشاهدين. لم تعد موجودة».
أيام كان الفيلم العربي أو الأفريقي أو الآسيوي، أو حتى أي فيلم لمخرج يعمل ضمن أسلوب ذاتي وفني كان يشهد إقبالاً كبيراً في عواصم الغرب الكبرى مثل برلين وباريس ولندن، وينتشر في سواها ويستمر عرضه أسابيع عديدة انتهت مع انتشار معالم حديثة وعصرية تقنية واقتصادية قبل أن يُصيب الوباء الغرب أساساً، والعالم لاحقاً، بالذهول وقدر من اللاثقة بالمستقبل. هذا المستقبل يبدو الآن مثل كرة أفلتت من قبضة صاحبها وها هي تقفز أمامه.
البحث عن وطن
النظرة لا يمكن أن تكون سوداوية لسببين: المهرجانات وأفلامها. كلاهما ملتزم بالآخر. هما في حاضنة واحدة وكل يحتاج إلى الآخر لكي يستمر. إلى ذلك سبب ثالث نجده في تلك الأفلام التي تفاجئنا بقدرة أصحابها على الإبداع والإتيان بجديد.
أفلام مثل «الفائض سينقذنا» للفرنسية مرجان دزيريلا – بيتيت، الذي عرضناه هنا سابقاً، ومثل «يامابوكي» (Yamabuki) للياباني جوسيرو يامازاكي الذي نعرضه اليوم.
قصّة إنسانية مؤلمة مُعالجة برهافة ورقّة، خصوصاً بعد نصف ساعتها الأولى، حول عامل من كوريا الجنوبية اسمه تشان (كانغ يون – سو) كان بطلاً رياضياً في الأولمبياد، لكن أحواله تعثرت بعد أن فقد والده فنزح إلى اليابان ويعيش الآن مع امرأة (ميسا وادا) وابنتها الصغيرة.
تشان سعيد، في البداية، بما في حوزته: عمل دائم في مقالع الحجر وبيت يأوي إليه ويحاول أن يجعله بديلاً لوطنه. لكن كل شيء يتغير عندما يتعرّض لحادثة ينتج منها كسر في ساقه. الشركة ستصرف له معاشاً متواضعاً، لكنها قد تتوقف عن التعامل معه في القريب العاجل. يخرج من المستشفى عوض البقاء في السرير ويحاول البرهنة على أنه ما زال قادراً على قيادة الجرافات، لكن هذا لا ينفع طويلاً. إثر ذلك يجد الفتاة الصغيرة قد استبدلت كلمة «بابا» بكلمة «تشان» حين تناديه، وها هي الآن تخبره بأنها لم تعد تحبّه.
في محاولة منه للحفاظ على هذا البيت والعائلة يسرق مالاً ليشتري به فستاناً (مرتفع الثمن) للفتاة الصغيرة. لكن الأم تعود مع ابنتها لزوجها السابق تاركة له رسالة وداع قصيرة.
الفيلم ليس عن تشان وحده، بل هناك خط يمتد بجانب الحكاية الأولى قبل أن يلتقي في النهايات ولفترة وجيزة. إنه عن الفتاة يامابوكي (كيلالا إينوري) التي تنضم إلى مجموعة صغيرة الحجم والشأن من المتظاهرين ضد ارتفاع الأسعار ووضع البلاد عموماً. والدها تحرٍ في الشرطة (يوتا كاواسي) يحاول ردعها عن المشاركة في هذه التجمّعات، لكن الفتاة تنطلق من مفهوم مغاير وستستمر.
يامابوكي ليس اسم الفتاة ولا عنوان الفيلم فقط. يكشف الفيلم عن بعض المعاني الأخرى: يامابوكي هو اسم زهرة صفراء ذهبية وتسمية مجازية للذهب الذي كان البعض يقدمه كرشوة في عصور مضت. بذلك هي كلمة تحمل رموزاً خصوصاً بالنسبة لفتاة تنظر، في أحد المشاهد، بعيداً صوب تلك الزهور وتقول «…. يامابوكي»، كما لو كانت تنادي نفسها.
بلدة للمهمّشين
هناك مشهدان رائعان في الفيلم يعتمدان على الذاكرة: تشان وهو يسرد أمام والد الفتاة لماذا سرق المال. يقول له خلال التحقيق إنه رغب في إهداء الفتاة شيئاً لكي يحافظ على وحدة العائلة. لكي تحبّه وترضى به بعدما أدركت أنه ليس والدها. دافعه الخفي إلى ذلك هو هجرته من كوريا، وعلى نحو مقنع يتساءل «لماذا هناك كوريّتان. كنا بلداً واحداً».
المشهد الآخر هو للفتاة وهي تتذكر أمها الصحافية التي قضت على الحدود التركية – السورية. المشهد لا يعكس افتقاد يامابوكي لوالدتها، بل صلتها بالمهنة التي قامت بها ورسالتها التي حاولت تأديتها. تقول الأم في مشهد فلاشباك «… لعلي أستطيع عبر عملي تأدية خدمة لهذا العالم».
نصف الساعة الأولى فيه بعض الفوضى. أحياناً مشاهد كان يمكن أن تُصوّر على نحو مختلف. تلك الفوضى من نوع تجاوز مشاهد لصالح أخرى ثم العودة للمشاهد المختزلة ووضعها في غير مكانها. لكن الفيلم يستوي بعد ذلك حين يتخلى المخرج يامازاكي عن تشتت بدايته ويركّز منتقلاً بين الشخصيتين وأحداثهما على نحو متساوٍ.
يامازاكي ابن الريف والأحداث تقع في بلدة مانيوا الصغيرة (نواحي الغرب) حيث عاش يامازاكي مزارعاً ثم باع أرضه وبدأ في تحقيق الأفلام المستقلة (هذا ثالث فيلم له وصوّره بكاميرا 16 مم). حين يقوم تشان بزيارة المدينة لشراء الهدية، يحسن المخرج تقديم البيئة التي يتلقفها تشان والمُشاهد معاً: الجسور، الشوارع العريضة، القطارات، المباني العالية، الأنوار الليلية، وكل ذلك قبل العودة إلى رحى واحدة من البلدات التي لا يؤمها سوى المهمّشين.
حالة عبور
فيلم آخر حول أزمة الإنسان ضد العالم، ولو في زمن مضى، هو الروسي «عبور» (Akrome). العنوان كلمة ذات أصل فرنسي (Croix) انتقلت (وبالإنجليزية Across) والمعنى في الفيلم الذي أخرجته ماريا إغناتنكو قد يكون رمزياً لوضع ما مثل عبور بطل الفيلم ماريس (جيورجي برغال) من البراءة إلى حالة الاكتشاف الصادمة لما هو عليه.
تقع الأحداث في قرية في إحدى مناطق البلطيق خلال الحرب العالمية الأولى. يعيش ماريس مع أخيه الأكبر يانيس (أندريه كرفنوك) وزوجته، وفي يوم يأخذه شقيقه إلى المعسكر لكي يتطوّع في الجيش الألماني. يتركه هناك ويبدأ ماريس حياته الجديدة. لقد أقسم أن يكون مخلصاً لجيش هتلر من دون توقعات أو أسئلة شأنه في ذلك شأن جميع المتطوّعين. لكن خلافاً لهم يكتشف أن ممارسات الجيش النازي والمتطوّعين الآخرين غير إنسانية.
يدلف الفيلم هنا لخاصرة موضوع الهولوكست. يواجه ماريس اعتداء الجنود على اليهود (معظمهم هنا نساء) بصمت المكتشف الذي تبدأ دواخله باعتراض صامت، ثم واضح عندما ينقذ إمرأة من تعنيف رفيق سلاح آخر رفضت الاستجابة لغرائزه. الآن نحن أمام حكايتين تداخلتا: حكاية ماريس الذي لم يكن يتوقع أن يكون شريكاً في الجريمة المنظّمة والفتاة (كلاڤديا كورشونوڤا) التي تمثّل ما حدث لسواها من ضحايا النازية.
لكن الفيلم غارق في محاولات المخرجة دفعنا لتبني أسلوبها في العمل. الصمت جيد في العموم، لكن ليس إلى الحد الذي نبدأ فيه البحث عن أصوات تعبّر عما يقع. الصورة هنا تحاول أن تلعب دور الكلمة، لكن تكرار ذلك طوال مدّة العرض (ساعة ونصف الساعة وبضع دقائق) يُغيّب وضوح الدوافع. لا شيء يؤهل بطل الفيلم لكي يتصرّف على هذا النحو سوى أن السيناريو يطلب منه ذلك في محاولة المخرجة لطرح حالة الرجل المسيحي والضحية اليهودية.
نستطيع أن نتابع براءة رجل انفرد بقراره عن باقي المتطوّعين، لكن لكي نفهم دوافعه علينا أن نلمّ بشيء آخر يمنحه السبب. أحياناً ما تنطق الشخصيات ببدايات كلمات قبل أن تفتقد باقي ما تريد قوله. الصورة هنا كان عليها أن تكمل الخانات الفارغة، لكنها منشغلة في مواصلة أسلوب عمل فيه الكثير من الرغبة في تأمل مصنوع لذاته وتكرار مفاد واحد ندركه منذ البداية ونتابعه برتابة بعد ذلك.