ريبيكا أوبنهايمر
في صباح أحد الأيام، مؤخرًا، في مانهاتن السفلى، اجتمع 20 عالمًا، ومنهم أنا لحضور العرض الخاص للفيلم الجديد «لا تنظر إلى الأعلى»(Don’t look up)، ثم تناولنا الغداء مع مخرج الفيلم «آدم مكاي».
حبكة الفيلم بسيطة: تكتشف طالبة الدراسات العليا في علم الفلك «كيت ديباسكاي» (جينيفر لورانس) وأستاذها «راندال ميندي» (ليوناردو دي كابريو) مذنبًا جديدًا، ويدركان أنه سيرتطم بالأرض في غضون ستة أشهر. ويبلغ عرضه حوالي تسعة كيلومترات مثل ذلك الذي قضى على الديناصورات قبل 66 مليون سنة فيحاول علماء الفلك تنبيه الرئيس الذي تلعب دوره «ميريل ستريب» إلى هلاكهم الوشيك.
لكنها تقول: «دعونا فقط ننتظر ونقيم الوضع»، ويتبع ذلك كوميديا شائنة لكنها معقولة، حيث يصارع علماء الفلك لنشر مقالفي إحدى الصحف الكبرى، لكن يتم الاستهزاء بهم في التلفزيون الصباحي، مع مضيف أرعن يسأل عن الفضائيين ويأمل أن المذنب سوف يقتل زوجته السابقة.
وفي النهاية يتولى التيار الرئيسي في «هوليوود» مهمة مكافحة الإنكار المتفشي للبحث العلمي والحقائق. والشيء المضحك،ولكن في نفس الوقت قمة في الجدية، أن فيلم «لا تنظر إلى الأعلى»(Don’t look up) يُعد أحد أهم المساهمات الحديثة لنشر العلم.إذ يتمتع ذلك الفيلم بجاذبيةٍ خاصة، من خلال طاقم الممثلين النجوم والكوميديا الهادفة التي يقدمها للوصول إلى الجماهير التي لديها تجارب مختلفة أو قليلة مع العلم.
إذ تُعد الأفلام السائدة التي تتضمن عناصر علمية بحد ذاتها أفلامًا سخيفة، ولكن في المقابل يحقق فيلم «لا تنظر إلى الأعلى» (Don’t look up) الموازنة الصحيحة.ومن المؤكد أن زملائي في الفيزياء الفلكية سيلاحظون الأخطاء في بعض المشاهد،بالإضافة إلى وجود بعض التجاوزات، ولكن ليس لها أي تأثير على هدف الفيلم وغايته، خاصة بالنسبة إلى أي شخص يفهم حبكات السينما وآليات العلم.ويحتاج أي عالم فيزياء فلكية محترف إلى تجنيب الاستنكار لبضع دقائق فقط من أصل 130 دقيقة تقريبًا.أما بالنسبة لعشاق العلوم فتوجد النكات الصغيرة المخفية بكثرة أيضًا.
تسود هذه الجواهر العلمية في الفيلم بسبب إصرار «مكاي» على أن تكون العالمة الممارسة «إيمي ماينزر» جزءًا من الإنتاج. كانت «ماينزر»، مستشارة التكنولوجيا الفلكية، في الفيلم، بالإضافة إلى كونها الباحثة الرئيسية في مهمة نيووايز «NEOWISE» التابعة لوكالة ناسا، والمكلفة بإيجاد وتمييز الأجرام القريبة من الأرض.قضت «ماينزر» شهورًا مع الممثلين وطاقم العمل وساعدت أيضًا في كتابة بعض المشاهد.
قد يكون علم الفلك أحد المجالات الأولى في الأوساط الأكاديمية التي كافحت من أجل ما سُمِّي بعد سنوات بحركة «أنا أيضًا»(Me Too)،حيث اهتزت العلاقة بين الطالب والمستشار، وهو ما يُعتبر أمرًا حاسمًا لنمو العلماء وتطورهم، بسبب مشكلة التحرش.
لكن أحد التفاصيل المؤثرة التي أبرزتها كانت العلاقة بين طالبة الدراسات العليا ومستشارها الرجل.إذ كانت عبارة عن رعاية متبادلة، أحيانًا شخصية ولكنها مهنية بلا شك. في الفيلم كانت هنا كعلاقة وطيدة تربط بين «ميندي» و«ديباسكاي». حتى إنهما يتعانقان ويثق أحدهما بالآخر. أظن أن بعض زملائي قد يكون لديه رد فعل عميق على هذا، لكنني وجدته منعشًا.إذ يكون البحث أكثر إنتاجية ومتعة بشكلٍ ملحوظ إذا تعرف الطلاب والمستشار ونعلى بعضهم البعض كأشخاص ويقضون الكثير من الوقت معًا مهنيًا.
ولكن بالرغم من ذلك، فإن ترويج طاقم الفيلم لقضية أخرى يُعد أمرًا مضللاً: إذ إنهم يريدون منا جميعًا أن نصدق أن الفيلم يدور حول تغير المناخ، بل قال المخرج عندما تحدث إلى مجموعتنا من العلماء بعد العرض الخاص أنه يريد أن يصنع فيلمًا عن الاحتباس الحراري وأن المذنب هو المحرك الدرامي للفيلم، أنا بالتأكيد أثني على رغبته تلك ولكنه لم يفِ بها.
يوجد بالفعل مقتطفات ومشاهد منتشرة في جميع أنحاء الفيلم تُظهر أفراس النهر تلعب ودببًا قطبية تقفز وثعالب الماء تتلوى ونحلاً يطن وحيتانًا تغني.هذه مجازات نموذجية للفت نظر غير العلماء إلى أن الاحتباس الحراري سيقتل كل شيء نجده جميعًا جميلاً.هذا هو أكثر جانب غير علمي في الفيلم، لا يذكر مشكلة تغير المناخ إلا بالقول بأن المناخ الذي نعرفه الآن قد لا يكون موجودًا بعد الاصطدام الهائل بمذنب.
إن ظاهرة الاحتباس الحراري هي وحش مختلف عن المذنب «القاتل للكواكب». إذ إن النطاق الزمني للتأثير الكارثي لمذنبٍ ما قصير، ربما يصل إلى ستة أشهر، وعلى الأرجح بضع سنوات.لكن لا يحدد الاحتباس الحراري موعدًا بعد ستة أشهر أو 600 عام من الآن ليموت آخر إنسان على وجه الأرض.بل في الحقيقة، من غير المرجح أن يمحو كل أشكال الحياة، بالنظر إلى تاريخ الحياة البالغ 3.5 مليار سنة، والذي يشمل تغيرات هائلة في درجة الحرارة وكيمياء الغلاف الجوي.
فيلم «لا تنظر إلى الأعلى»(Don’t look up) ليس فيلمًا عن تغير المناخ، ولكنه فيلم عن الدفاع الكوكبي ضد الصخور الهائمة في الفضاء.إذيتعامل الفيلم مع هذه القضية الحقيقية والخطيرة بشكل فعال ودقيق. بجانب ذلك، تكمن القوة الحقيقية لهذا الفيلم في شراسة السخرية من منكري العلم.
بعد العرض الخاص، في صالة العرض في الطابق السفلي في «سوهو»، قال مكاي: هذا الفيلم لكم أيها العلماء.نريدكم أن تعرفوا أن البعض منا يسمعكم ويريد المساعدة في مكافحة إنكار العلم.
بعد بضعة أيام، قابلت ماينزر أخيرًا للمرة الأولى، منذ بدء الوباء. لقد ثرثرنا وتبادلنا أطراف الحديث بكل جدية، وضحكنا واحتفلنا بنجاحها في إدخال العلم الحقيقي إلى فيلم هوليوود كبير. احتفلنا أيضًابالديناصورات ذات ريش قوس قزح مثل برونتروكس، الذي ظهر في الفيلم، أولئك اللاتي قد يكن أوصياء على المناخ من بعدنا.
المصدر: مركز سمت للدراسات