خالد البري
التمثيل مهنة تعتمد على محاكاة حياتنا، بعد تكثيف لحظاتها، والإضاءة على جوانب منها، لمنحنا معنى جديداً. سواء أحببت فن التمثيل أم لا، فأنت منتج له. رأيت فيه خبرات وتجارب أكثر مئات المرات من تلك التي عشتها بنفسك. كماً ونوعاً. حاكت الإنسان ثم حاكاها. وحملت تجاربه عبر العصور بجمالها الذي يجعل الناس تحرص على الحفاظ عليها. فعرفنا مسرحيات كتبها المصريون القدماء، والإغريق، والرومان وأهل القرون الوسطى. ودخلنا إلى عقولهم، وفهمنا فلسفتهم، حتى لو كانت الأحداث مختلقة.
لكن فن التمثيل عندنا يتعرض لقصقصة ريش لم يعاقب بمثلها ديك مزعج. حتى تحول إلى شيء آخر تماماً، واقترب أن يكون بانتومايم. صار مرسوماً على مقاس كارهيه، لا محبيه. والأكثر غرابة ومدعاة للتشاؤم أن بعضاً من هؤلاء يعملون في المهنة ضجة في مصر بعد طلاق ممثلة من زوجها، ثم عودتها إليه بعد يومين. والسبب؟ أن الممثلة شاركت في مشهد تؤدي فيه دور مريضة، وأن الممثل الذي يؤدي دور أخيها في هذا العمل أمسك برسغها لكي يطمئن على النبض. هذا المشهد العادي أغضب الزوج إلى درجة الانفصال، واستدعى الاتصال به لـ«توضيح الحقيقة».
هذا يعني أن الحملة على مشاهد الحب، والقبلات، تمتد الآن إلى الملامسة العادية. مع أن الأمر بسيط للغاية. مهنة التمثيل تنضوي على مشاهد كتلك، كما تنضوي مهنة التمريض على الوجود في المستشفى في نوبات ليلية، ومهنة مضيفة الطيران على السفر إلى الخارج بمفردك. إن لم تناسبك هذه المقتضيات فلا تشغلي بالك بالمهنة. اختاري مهنة تناسبك. شيل دا من دا، يرتاح دا عن دا.
لكن الموضوع أكبر. أهمية فن التمثيل والتأليف الأدبي، ودورهما في نقل أفكار الحضارات وتصورها للعالم، تجعلهما ميدان صراع لأصحاب الأفكار، الحريصين على نقل أفكارهم تلك إلى الأجيال الأحدث، بحيث يكون خيار «اعتزال» المهنة المزعجة مرفوضاً من قبلهم، بل الواجب الفكري الدخول إليها، والهيمنة عليها، وتطهيرها من الآخرين.
لم يعد سراً الآن أن هذا غرض سخرت له التنظيمات الدينية في صورتها الحديثة مبالغ طائلة، وأنها تملك شركات إنتاج كبرى وصغرى سخية ومستديمة وقادرة على تجاوز معايير الديمومة الاقتصادية، في مقابل تحقيق غرض فرض معاييرها. والأنكى أن لها اليد العليا تماماً في القطاع الخاص، وهو الجهة الوحيدة التي يمكن أن تنتج فناً جذاباً بعيداً عن الفن الحكومي المحكوم بمعايير بيروقراطية معطلة. بعد 2011 اكتشفنا أن كثيراً من كتّاب السيناريو الذين فُتح لهم المجال على ضعف موهبتهم في هذا الفن المستقل كانوا في الحقيقة أعضاء تنظيميين متخفين.
وهكذا الحال في مجال الأدب والثقافة. يمتلك هؤلاء عنصراً مهماً للغاية في ظل «السوشيال ميديا»، لا يمتلكه الموهوبون المستقلون، وهو الكتلة الخشبية من جمهور التنظيمات التي تناضل من على الكيبورد لكي توحي بأن رأيها هو «المينستريم». وهي كتلة تربت أساساً على كراهية الفن وتحريمه، واكتشفت «الحرص» عليه متأخرة بأوامر تنظيمية سياسية.
الجيل الذي ينشأ على سينما يتجنب فيها أخ قياس نبض أخته حتى لا يلمسها لن يكون تصوره عن العالم كالجيل الذي نشأ على أفلام كـ«بداية ونهاية»، أو «البوسطجي»، أو «الحرام»، أو «ثرثرة فوق النيل».
بحكم معيشتي في لندن واطلاعي على الأفلام المصرية حِزَما، على فترات متباعدة، مما يمكنني من رؤية العوامل المشتركة والاتجاهات السائدة، أرى الأغرب من كل ما سبق أن السينما «النظيفة» التي ترفع شعارات أخلاقية متعلقة بالملامسات الجسدية سينما ساقطة أخلاقياً في الشق المعنوي للكلمة. تُشيع أفكار تحرش لفظي، وأحكاماً تصنف النساء حسب مظهرهن، وتصنف الرجال حسب درجة تحكمهم في حياة النساء من حولهم، وتشيع كراهية الأجانب وتحقير سلوك مجتمعات يقول الواقع إنها أنجح وأكثر إنتاجاً وأكثر استقراراً، وتنزع الإنسانية من نظرتنا المتبادلة بعضنا إلى بعض، لتُحل محلها أحكاماً معلبة جاهزة. أفكار حين تحللها إلى جوهرها لن تجدها أكثر من إعادة إنتاج لأفكار جماعات الإسلام السياسي. أفكار نشأ الفن خصيصاً لأننا اكتشفنا أنها قاصرة عن فهم الإنسان.
بعد يومين من واقعة طلاق ممثلة النبض، ثار جدل جديد. هذه المرة بسبب عنوان مسرحية تزمع الفنانة إلهام شاهين أداء دور البطولة فيها، بينما تخرجها الفنانة سميحة أيوب. الجدل هذه المرة بسبب عنوان المسرحية، «المومس الفاضلة». مع أن أفلاماً عرضت في السابق بألفاظ لها المعنى نفسه تقريباً، كـ«إيرما الغانية». واللفظتان مترادفتان.
لكن انظروا إلى الحل المقترح. ليس تغيير اسم المسرحية إلى «الغانية الفاضلة» مثلاً، لتجنب اللفظ الآخر. على أساس أن المسرحية مترجمة والمترادفات تؤدي الغرض. لا. الحل المقترح هو تحويل العنوان إلى «الفاضلة»، ما يلخص رمزياً ما يحدث من تقليص الفنون، ونزع المعنى الأخلاقي من العمل الفني تحت دعوى الأخلاق. عنوان كهذا العنوان الأصلي للمسرحية مقصود لجذب الأذن وإثارة الاهتمام، ولفت النظر إلى المفارقة. وهذا عنصر أساسي في الرواج الفني. وفي امتداده إلى شرائح جديدة، ربما لم تكن مهتمة فأثار عنوان متناقض كهذا اهتمامها.
إن ظننا أن غياب «الفلسفة الأخلاقية» أمر ثانوي، أو زايدنا على الجماعات المتشددة، فعلينا أن نراجع أنفسنا. الفلسفة الأخلاقية هي التي تصنع مجتمعات متآلفة، عمرانية، جذابة، متأهلة للثقة، أو تصنع العكس. والفلسفة الأخلاقية يصنعها الفن لا القواعد. ليس صدفة أن المجتمعات الناجحة ناجحة في إنتاج الفنون أيضاً، ناجحة في تطوير علم النفس، وتعاني أقل كثيراً من مشكلة التطرف المدمرة.
المصدر/ صحيفة الشرق الأوسط