سوليوود «متابعات»
كشف أحد المطلعين على أعمال مهرجان قرطاج التي بدأت دورته الجديدة يوم أمس (السبت)، بأنّ بعض المهرجانات الأخرى في الجوار العربي تدفع مبالغ نقدية مقابل ألا يذهب صانع الفيلم إلى مهرجان آخر. بذلك ينفرد المهرجان الدافع بعدد من الأفلام التي تقوّيه وتميّزه عوض أن تذهب إلى مهرجانات منافسة. مهرجان قرطاج السينمائي المتخصص بالسينما العربية والأفريقية هو أحد هذه المهرجانات المنافسة، حسب ما أوردت الشرق الأوسط.
على هذا الأساس، مهرجان أيام قرطاج السينمائي لا يدفع. لم يدفع لشراء عرض فيلم في حياته منذ تأسيسه سنة 1966 وحتى هذه الدورة الثانية والثلاثين التي تنتهي في السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) 2021.
أسسه الناقد الراحل الطاهر الشريعة على أن يُقام مرّة كل سنتين. في عام 2015 تقرر أن يُقام المهرجان سنوياً. بذلك دخل عرين منافسة طبيعية مع مهرجانات عربية أخرى تُقام سنوياً، بينها مهرجان القاهرة ومهرجاني دبي وأبوظبي اللذين توقفا إثر نجاح لم يسبقه مثيل على خارطة المهرجانات العربية.
تولى المنتج نجيب عياد إدارته، سنة 2018 بعدما انتقل المهرجان من يد إلى يد طوال عقدين ماضيين، لكن المنية وافته في العام التالي ليتسلم المخرج والمنتج التونسي رضا الباهي المرموق هذه الإدارة في العام الماضي والعام الحالي.
مسابقات
سابقاً ما كان السؤال عما إذا كان من الممكن ضم السينما العربية إلى السينما الأفريقية السوداء في مسابقة واحدة. في دورات الثمانينات والتسعينات تموضع هذا السؤال حول الهوية ذاتها من منطلق أن السينماتين مختلفتان في كل شيء ما عدا استخدامهما الفيلم الخام (لم يكن الديجيتال موجوداً آنذاك). بدت السينما العربية أكثر غزارة وأكثر حضوراً وتقدّماً، في أساليب العمل والصنعة والإنتاج كما على صعيد المواهب في الكتابة والإخراج والتمثيل عن رفيقتها الأفريقية.
لكن هذا الحال تبدّل خلال السنوات القليلة الماضية، لا من حيث إن الجمع بين الأفريقي والعربي بات تقليداً ناجحاً فقط، بل كذلك من حيث إنه بات للسينما الأفريقية مواهبها وإنتاجاتها المهمّة هي التي لم تخل فعلياً من المواهب منذ سنوات بعيدة وإن تناثرت وتباعدت كماً.
مسابقة هذا العام تحتوي، بطبيعة الحال، على هذا التوازي المثير ولو على نحو غير متعادل. في مواجهة ثمانية أفلام عربية (مع اعتبار أن الصومال عضو في جامعة الدول العربية) هناك أربعة أفريقية في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، وفي مقابل عشرة أفلام عربية في مسابقة الأفلام القصيرة هناك فيلمان من الجوف الأفريقي (من رواندا والسنغال).
في مسابقة الفيلم الوثائقي الطويل 8 أفلام عربية و4 أفريقية. أما مسابقة الفيلم الوثائقي القصير فيجمع بين 6 أفلام عربية و3 أفريقية. هذه المسابقات الرسمية الأربعة تُضاف إليها مسابقة خامسة تحمل عنوان «السينما الواعدة»، وتتمثل أيضاً في غلبة للسينما العربية (8 أفلام في مقابل فيلمين من عمق القارّة).
لجنة التحكيم للأفلام الروائية الطويلة والقصيرة يقودها الأكاديمي الإيطالي إنزو بورسلي وتضم فيلماً للمخرج المغربي داود أولاد السيد والناقد التونسي سفيان بن فرحان والزميل طارق الشناوي من مصر.
المخرجة الإماراتية نجوم الغانم تشترك في لجنة تحكيم الأفلام القصيرة التي ترأسها الفرنسية صوفي سالبو.
دفتر رئيس المهرجان مليء بالملاحظات الدقيقة والخواطر والتفاصيل، لكنه مثله لا يُذاع له سر. رضا الباهي حريص على أن يترك للدورة الجديدة مهمّة الحديث عن نفسها وهي تعد بأن تكون دورة أخرى ناجحة، هذا رغم الظروف السياسية الأخيرة وإن كانت هذه الظروف معتادة في ركب دولة شهدت تجاذبات القوى السياسية داخلها ومن حولها.
يقول رضا الباهي في حديث خاص: «سعينا لأن تتمثل في الدورة الجديدة معظم الدول العربية المنتجة للأفلام. لدينا على سبيل المثال أفلام من السعودية وقطر ومصر وتونس والجزائر والمغرب ولبنان وسوريا وليبيا واليمن والصومال. وشخصياً فوجئت بعدد الذين تقدّموا بأفلامهم إلينا قبل انعقاد الدورة».
ويترجم الباهي المسألة رقمياً:
* عدد الدول المشاركة: 45 دولة.
* عدد أقسام المهرجان: 11
* عدد الأفلام التي عرضت على المهرجان: 750 فيلماً
* عدد الأفلام المختارة 255 فيلماً.
* عدد الأفلام الطويلة التونسية: 18 فيلماً.
فيلم الافتتاح
الافتتاح من نصيب الفيلم التشادي- الفرنسي «لينغوِي – روابط مقدّسة» للمخرج التشادي محمد صالح هارون. كما عادته في أفلام السابقة «الرجل الذي يصيح» (2010) و«دارات» (2013) يتناول المخرج حكاية شائكة بأسلوبه الهادئ الذي لا يسعي لإثارة المشاهد عبر إيقاع أو تفعيل درامي قد يستجيب لدواعي من خارج قناعاته.
في البؤرة شخصيتان أم اسمها أمينة (أشواق أباكر) وابنتها الشابة ماريا (ريحان خليل عليو). الأولى تفاجأ بتصرّفات ابنتها الشابة التي أخذت تختلف طبائعها عن المعتاد. أخذت تنزوي بعيداً وتتقلب في كوابيسها ليلاً. تلحق بابنتها سراً إلى المدرسة لتكتشف أنها طُردت منها بسبب حملها. يترك هذا الاكتشاف أثراً كبيراً على الأم الملتزمة دينياً. هي، لحين، موزّعة العاطفة والشأن بين التزامها الديني (كانت تؤم المسجد وتستمع لنصائح الإمام المنتمي إلى الإخوان المسلمين) وبين التزامها بوضع ابنتها التي تبوح لوالدتها برغبتها في الإجهاض.
ما يجعل المسألة عميقة وجدانياً والحكاية هي أنّ الأم خاضت هذا الركب سابقاً إذ أنجبت وهي عازبة من قبل، وواجهت ردات فعل متوقعة ونبذ أهلها لها. وحين تجد أنّ الدائرة تعود بها إلى ماضيها، تتخذ القرار في مساعدة ابنتها على الإجهاض رغم القوانين الصارمة. بذلك تختار أي التزام تريده لنفسها ولابنتها.
الأم هي المحور لكل ما نراه. هي أكثر من حضور الأم في فيلم «ستموت في العشرين» لأمجد أبو العلا، مثلاً. في البداية نراها تعمل على انتزاع الأسلاك من داخل إطارات السيارات وبيع الإطارات كوقود. ليست المهنة التي تتمناها أي امرأة لنفسها (ناهيك عن الرجل) لكنه التقديم الشامل لكي نعرف أي نوع من المرأة المجاهدة هي أمينة. لاحقاً لا تحارب أمينة صمتاً بل جهراً وتسعى لتغيير مصير ابنتها. تنفيذ هارون الهادئ المُشار إليه يوازيه قدراً عدم رغبته في الخطابة ولا في تقديم ما هو صدامي، بل البحث من داخل المؤسسة الاجتماعية عن التقاليد والتحديات. الروابط المقدّسة هنا هي نسائية: الأم وابنتها من ثمّ شقيقتها الصغرى وإحدى معارفها. يشكل هذا الثلاثي السعي لإيجاد حل للمشكلة الحادة وهي الإجهاض. يتبنى المخرج، طبيعياً، حرية الفعل. لكن أحد أهم رغبات المخرج الإشارة إلى كيف تستطيع النساء تكوين الموقف الملزم وإنقاذ الوضع بتضامن فريد. هذا كان شأن فيلمه السابق مباشرة Grigris حين تلتقي نساء القرية على الدفاع عن حقوقهن.
أفلام العرب في المسابقة
إذ يقود «لينغوي – روابط مقدّسة» الأفلام التي ستليه، نجد في خضم مسابقة الفيلم الروائي الطويل مجموعة متعددة الاتجاهات والأساليب بعضها يتمحور كذلك حول المرأة ووضعها وحقوقها.
المرأة هي في فيلم عمر الزهيري «ريش» من خلال الزوجة التي يتحوّل زوجها إلى دجاجة (ولو أن الزوج بذلك يعكس حال الهوية المنزوعة منه).هي المرأة أيضاً في الفيلم المصري – الفلسطيني «أميرة» لمحمد دياب حين تكتشف الفتاة (تارا عبّود) أنّ الرجل الذي ربّاها ليس والدها. تبعات ذلك صادمة مع سؤال يتبلور، كما سنرى في رسالة أخرى، لمن قد يكون والد أميرة الحقيقي وما علاقة كل ذلك بأمها وأبيها القابع في أحد السجون الإسرائيلية.
كل من «ريش» و«أميرة» تنافسا على جائزة مهرجان الجونة في دورته الخامسة مؤخراً (حيث خرج «ريش» بجائزة أفضل فيلم عربي) ويتنافسان الآن في قرطاج.
كذلك فعل الفيلم المغربي «علي صوتك» لنبيل عيوش الذي يدور أيضاً حول الفتاة الشابّة واختياراتها اليوم. كعادة أفلام عيوش يتقدّم الإعلان عن الغاية الخطابية كل شيء آخر، فإذا بالفيلم يميل لترويج الفكرة وللترفيه أساساً. شيء معاكس تماماً لفيلم محمد صالح هارون.
الأفلام الأخرى الآتية من الدول العربية للاشتراك في هذا المسابقة هي «حلم» لعمر بلقاسمي (الجزائر) و«الريح وحدها» لكريم قاسم (لبنان) وثلاثة أفلام تونسية هي «فرططو الدهب» (كما هو العنوان الفعلي) لعبد الحميد بوشناق و«مجنون فرح» لليلى أبو زيد و«عصيان» للجيلالي السعدي.
على صعيد مختلف، يتساءل المرء عن كيف يقاوم بعض المخرجين اللبنانيين والليبيين الوضع الحاضر في البلدين لإنتاج وتوفير أفلام حديثة. هناك فيلمان لبنانيان آخران في العروض القرطاجية هما «كوستا برافا» لمونيا عقل و«الغضب» لماريا إيفانوفا، عدا ما قد يلتقطه الحاضر من أفلام مبعثرة بين التسجيلي الطويل («أعنف حب» لإيليان الراهب) والأفلام القصيرة على نوعيها الروائي وغير الروائي.
بالنسبة للأفلام الليبية المندرجة في قسم يستضيفها، هي خمسة عشر فيلماً يعود أقدمها (فيلم بعنوان «80») إلى سنة 2012. وثلاثة منها من إنتاج هذه السنة هي «رؤى ليلية» لبكر فارس ومحمود الفتحالي و«الباروني» لأسامة رزق و«كلاب العقيد الضالة» لخالد شميس.
الأفلام الإحدى عشر الباقية تعود لسنوات ما بعد 2012 و2021 وتشمل «أرض الرجال» لألو خريس خليفة (2015)، و«السجين والسجّان» لمهند الأمين (2019)، و«طريق العودة» لمالك المغربي (2020).
متى أُنتجت هذه الأفلام وكيف صُنعت؟. هذا واحد من الحوافز التي تجعل من مهرجان أيام قرطاج السينمائية حفلاً فنياً وثقافياً لا يذبل.