كان الرئيس الراحل أنور السادات قد أصدر قانونا عام ١٩٨٠، للمحافظة على التراث فى المسرح والسينما، القانون يجرم هدم أى مبنى تراثى فني، إلا فى حالة بناء البديل له وفى المكان نفسه، لكن فى عهد الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، وبسبب سيطرة مافيا رجال الأعمال، تم تعديل القانون، واكتفى بفرض مبالغ مالية على من يهدم مسرحا أو دار سينما، وبذلك أصبح من الطبيعى نتيجة انتشار الفساد فى المحليات، أن يتم هدم التاريخ، فيما أهملت دور العرض السينمائية وهدمت المسارح، مستغلين الثغرات القانونية.
فيما كانت سينما الترسو ملجأ للبسطاء والعامة فى كل أنحاء المحروسة؛ حيث تم الاستيلاء عليها وهدمها، وكانت أشهرها على الإطلاق سينما «الكورسال» أو «على بابا» التاريخية.
سينما «الكورسال الجديدة» أو «على بابا» شيدها المعمارى «نعوم شبيب» أحد رواد العمارة المصرية عام ١٩٤٦، وتبلغ مساحتها ٨٠٠ متر مربع، وقد تمت تغطية المساحة بالكامل بقبة فريدة من نوعها، وحصل المعمارى على براءة اختراع لتلك القبة، وسميت باسمه «قبة شبيب»، وهى عبارة عن تشكيل قالب من الطين على الأرض بهيئة القبة وتسليحه بالحديد، ثم صب طبقة رقيقة من الخرسانة حتى تأخذ شكل القالب وتغطى حديد التسليح، وبعد أن تجف الخرسانة ترفع القبة ببطء لموقعها النهائى على ارتفاع ١٢ مترًا لترتكز على ٨ أعمدة فقط..
وفى بداية الأربعينيات قررت عائلة «موصيرى» الإيطالية، التى استقرت فى مصر فى النصف الثانى من القرن الـ١٩، وحققت انطلاقتها الحقيقية عندما أسس إيلى موصيرى شركة «جوزى فيلم» سنة ١٩١١، وكانت أولى شركات دور العرض السينمائية، ومنها «سينماتوجراف بالاس» و«سينماتوجراف المنظر الجميل» و«سينما لوكس» و«راديو» فى القاهرة، وسينما «فريال» و«راديو» فى إسكندرية، فشيدت سينما الكورسال للترويح عن الطبقة الفقيرة، فكانت من أوائل دور السينما فى مصر، ويبلغ عدد مقاعدها حوالى ٧٠٠ مقعد، وتعرض ٣ أفلام فى الحفلة الواحدة، وثمن التذكرة وقتها ٢.٥ قرش، وكانت أكبر دار عرض فى مصر من حيث المساحة وهى مكونة من طابقين، اسمها سينما «الكورسال»، لكن هذا الاسم لم يكن متعارفًا عليه، وغلب عليها إطلاق اسم «على بابا»، التى كانت سببًا فى شهرة فنانين.
لم تحقق أفلامهم انتشارا فى سينما الدرجة الأولى، منها ظهر وحش الشاشة فريد شوقي، وكانت سينما «على بابا» سببا فى إطلاق اسم «ملك الترسو» عليه فى مطلع الخمسينيات، قبل أن يحصل على لقب «البريمو»، وحين قرر النجم أنور وجدى عرض فيلم «ياسمين» للطفلة المعجزة فيروز، فى يوم اختياره كان هناك عرض فيلم «شمشون ودليلة» للمخرج العالمى سيسيل ديميل فى كل سينمات عماد الدين، فقرر النجم أنور وجدى عرضه فى سينما «الكورسال» أو «على بابا»، وكانت هذه مخاطرة كبيرة جازف بها أنور وجدي، ولكن بحسه التجارى هزم شمشون ونجح الفيلم نجاحًا كبيرًا. وحضرت فيها ليلى مراد العرض الخاص لآخر أفلامها «الحبيب المجهول» يوم ٢٣ مايو ١٩٥٥، ليأتى بعدها بشهر عبدالحليم حافظ وعمر الشريف وفاتن حمامة ليفتتحوا أول عرض لفيلمهم «أيامنا الحلوة»، كما شهدت العرض الأول لفيلم «حماتى ملاك» سنة ١٩٥٩ لكمال الشناوى ومارى منيب، وكذلك عرض فيلم «الفتوة» لفريد شوقى وغيرهم الكثير.
وتعد سينما «الكورسال» أو «على بابا» تراثا أثريا، أنشئت منذ أكثر من ١٠٠ عام تقريبا، عاصرت ملوكا ورؤساء وأحداثا؛ فقد بدأت فى عهد السلطان حسين كامل، واستمرت بعد ذلك مع ملكين، وعاصرت رؤساء وأحداث غيرت وجه مصر من ملكية إلى جمهورية، ومن اشتراكية إلى انفتاح ورأس مالية، رغم هذا التاريخ؛ فإن الدولة سهلت هدمها بسبب أعمال الخط الثالث لمترو الأنفاق، لتدخل سينما «على بابا» من ضمن الأضرحة التى تم اغتيالها للقضاء على التراث الفني.
كانت لمذبحة التراث السينمائى والمسرحى شواهد فى كل محافظات مصر، ولكن كانت الدور التاريخية فى القاهرة والجيزة لها نصيب كبير من الإهمال والهدم العشوائى لتلك المبانى الفنية العريقة، فمحافظة القاهرة وحدها أغلقت أكثر من ٦٠ سينما، منها سينمات: «جرين بالاس، والنزهة الصيفى، ورويال الجديدة، وأواسيس، والكورسال الجديدة، وألمظ، والترجمان١، والترجمان٢، والحرية بالخانكة، وفينوس، والأهلى بشبرا الخيمة، والحدائق، ونيوستار، والشرق، وإيزيس بحى السيدة زينب، وسينما ومسرح الجزيرة بالمنيل، ومون لايت، والحديقة الدولية، والميرلاند، ونادى المقطم، و٤ سينمات تابعة لرويال اليمامة، وأكسنيت، وحدائق أكتوبر، وداون تاون، و٣ سينمات تابعة لجودنيوز جراند حياة، وقصر النيل، والقاهرة التابعة لأفلام الشرق، وحديقة الجبل التابعة لشركة الكواكب، ونادى الزراعيين، ونجيب الريحانى، ونادى النخيل، ونادى سيتى كلوب، وقرية اللوتس السياحية، وفاتن حمامة، وفريد شوقى، وماجدة بحلوان».. وآخر هذه السينمات سينما «روتيرى بوسط البلد»، التى أغلقت وتحولت إلى مخزن لقطع غيار السيارات ومحلات أحذية ومشروبات..
وصف الدكتور حسين حمودة، الناقد الأدبي، ظاهرة هدم دور العرض بالكارثة، لافتا إلى أن مصر حاليا فى حاجة إلى بناء دور عرض سينمائية جديدة، فى كل حى من الأحياء داخل المدن والقرى المصرية؛ لأنها جزء من ثقافتنا وتاريخنا وحضارتنا بل وهويتنا.
واحتج شعبان سعيد، المستشار القانونى لنقابة المهن التمثيلية، ضد هدم مبنى سينما فاتن حمامة، واصفا المبنى بـ«الأثرى» وفقا للقانون.
مضيفًا أن على الدولة أن تنفذ دورها بالحماية والحفاظ على التراث الثقافى، وتدعم هذه القضية، مؤكدا أن الدولة تقوم بدورها بتوجيه أصحاب هذه الممتلكات للحفاظ عليها، قائلا: «الدولة هى المسئولة عن الحفاظ على تراثنا ممن يجهلونه»..
لافتا إلى أن لدينا مناطق أثرية ومبانى ترجع إلى آلاف السنوات، وتمتلئ بالقمامة والعصابات، وأصبحت مجرد وكر للمدمنين أو أطفال الشوارع أو الحيوانات، وهى مهملة بشكل تام، مؤكدا يجب استغلال والترويج لكل مبنى أثرى أو يحتوى على تراثنا وحضارتنا لجذب سياح العالم، حتى نظهر بشكل لائق ومتحضر عالميا، وتابع: «للأسف لا نعرف قيمة ما تملكه مصر من حضارة عريقة»..
واستطرد، أن إهمال حضارتنا وصل إلى أن قانون وزارة الآثار يبيح أنه إذا عثر شخص على قطعة أثرية، ولم يوجد مخازن لحفظها، يجوز أن يحتفظ بها هذا الشخص، وأن تكون مسجلة بالدفاتر، لعدم توافر مكان للحفظ لدى الوزارة.
ورفض الدكتور أحمد مصيلحي، أستاذ التاريخ، مبدأ هدم دور العرض، وسجل احتجاجه ضد هدم سينما «فاتن حمامة»، وأكد مصيلحى، أن الفن والثقافة هما عنوان الشعوب، معتبرا هدم سينما «فاتن حمامة»، هو هدم لتراثنا وتاريخنا وهويتنا، قائلا: «بينما العالم كله يبدع فى إقامة دور العرض السينمائية، نحن نهدم تراثنا».
وقال الفنان أشرف مصيلحى، إن غلق وهدم دور العرض فى مصر يشكل خطرا على صناعة السينما، وأوضح أشرف، أن دور العرض تعتبر من التراث، مثل سينمات وسط العاصمة «مترو أو كايرو بلاس أو سينما روكسى وسينما هليوبولس»، موضحا أن هناك بعض دور العرض التى شهدت تطويرا، مثل سينما «مترو»، وشمل التطوير تغييرات فى الديكورات الخاصة بها وتنظيمها، مؤكدا أنه ضد التغييرات فى تنظيم السينمات التراثية ولكن مع تجديدها، أما ما يحدث من حملة الهدم على دور العرض وآخرها سينما «فاتن حمامة»، أو غلق بعض السينمات، هذا أمر لا يجب أن تصمت الدولة عليه، واصفا الأمر بالاعتداء على تراث وثقافة مجتمع بأكمله، مطالبا الدولة بالحفاظ على التراث.
أوضح المستشار القانونى لنقابة المهن التمثيلية شعبان سعيد، أن المادة ٢ بقانون حماية الآثار الجديد بعد التعديل عام ٢٠١٠، ينص على أن كل عقار أو منقول أنتجته الحضارات المختلفة أو الفنون والعلوم والآداب، يعتبر أثرا، موضحا أن أى عقار ذى أهمية تاريخية مر على بنائه ١٠٠ عام، يعد أثرا وهدمه غير مسموح، إلا بعد الرجوع إلى مجلس الوزراء بنص المادة ٣ من القانون نفسه.
وأشار إلى أنه لا يجوز البناء للأماكن والأراضى المتاخمة المجاورة للمواقع الأثرية إلا وفقا للاشتراطات التى تصدر من المجلس الأعلى للآثار، حفاظا على المبانى، وذلك وفقا للمادة ٢٨ بقانون حماية الآثار الجديد.
وأشار سعيد إلى أنه يعاقب بالسجن من ٣ إلى ٥ سنوات، وغرامة من ١٠ إلى ٥٠ ألف جنيه، كل من حول المبانى أو الأراضى الأثرية أو جزء منها إلى مسكن أو مخزن أو مصنع أو أعدها للزراعة، وفقا للمادة ٤٥، مؤكدا أن القانون تم تعديله عام ٢٠١٨، للحد من عملية الاستيلاء وهدم المبانى التاريخية، بحظر توصيل المرافق للمنشآت التى يتم إقامتها على أراضى ومواقع أثرية، فى آخر تعديل للقانون ١١٧ لسنة ٨٣، لافتا إلى أن العقوبة ارتفعت إلى ٧ سنوات ومليون جنيه غرامة، لكل من قام بهدم أو إتلاف أثر ثابت أو منقول، وأشار سعيد إلى أن جرائم الاعتداء على الآثار لا تسقط بالتقادم، مناشدا رئيس الوزراء أن يتم تطبيق القانون على المخالفين ومحاكمة كل من أصدر ترخيصا بهدم السينما.
التراث والسينما فى حماية «القابضة للاستثمار»
أصدرت الدكتورة إيناس عبدالدايم وزيرة الثقافة، القرار الوزارى رقم ٣٩٣ لسنة ٢٠١٨، بشأن لائحة النظام الأساسى للشركة القابضة للاستثمار فى المجالات الثقافية والسينمائية، وشدد القرار على أن تكون القابضة للسينما المنظم الأساسى للحركة السينمائية فى مصر.
القرار لم يكن وليد الصدفة، وقصة اهتمام الشركة القابضة للسينما ترجع لحوالى ٣ سنوات مضت، عندما أصدر رئيس الوزراء قرارًا بعودة أصول السينما المصرية إلى وزارة الثقافة، وإنشاء الشركة القابضة للصناعات الثقافية التى تتبعها شركة السينما، وفى عام ٢٠١٧ أعلن حلمى النمنم وزير الثقافة، أن الوزارة سوف تعمل على إنشاء شركة لصناعة السينما والثقافة، وبعد تولى الدكتورة إيناس أصدرت قرارها بإصدار لائحة النظام الأساسى للشركة، ونشر القرار الوزارى فى الجريدة الرسمية بالعدد رقم ١٣٣ بتاريخ ١٠ يونيو سنة ٢٠١٨.
وأصدرت الوزيرة تعليمات بإنهاء الإجراءات الخاصة بتأسيس الشركة القابضة، وتفعيل الجمعية العمومية المقترحة، والعمل على إقامة الشركات التابعة، ومنها شركة «الصناعات التراثية» وشركة «السينما» وشركة «الثقافة العامة والفنية».
من جهة أخرى، كشف تقرير صادر عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، أن عدد دور السينما فى مصر كان ٩٢ فى عام ٢٠١٢، مقارنة بـ ١٠٠ دار عرض فى العام ٢٠١١، و١٥٠ دارًا فى العام ٢٠٠٨، ويعنى هذا أن مصر فقدت ٥٨ دار عرض سينمائية فى الفترة ما بين ٢٠٠٨- ٢٠١٤
وأصدرت غرفة صناعة السينما، تقريرا أكدت فيه أن عدد السينمات كان ٣٥٠ دارًا فى عام ١٩٥٤، وانخفض إلى ٢٥٠ دارًا فى عام ١٩٦٦، ثم ١٩٠ دارًا فى عام ١٩٧٧، مما يعنى أن مصر فقدت أكثر من ٢٦٠ دار عرضٍ سينمائية فى ٦٠ عاما.