سوليوود «متابعات»
لا مستقبل للمغردين خارج السرب، ولا مكان للعازفين على إيقاع غير سمفونية النظام في طهران، حتى بات ظاهر البلاد على قلب رجل واحد، وإن كان باطنها عكس ذلك تماما. السينما في إيران مجال يكشف بجلاء عن هذه القاعدة، التي تولى حامد رضا صدر، الناقد الإيراني، بسط تفاصيلها، في كتاب ، المترجم بقلم أحمد يوسف عن المركز القومي للترجمة 2019، على مدار تسعة فصول، تناول فيها تطورات السينما طيلة القرن كاملا.
السرد الكرونولوجي لا يساعد على الإحاطة بكثير من تفاصيل السينما في إيران، تحديدا تقلبات موقف الخميني منها، فقد عدها في زمن الثورة ماخور الرذيلة، ما جعل دور السينما هدفا لأتباع الإمام، فهي رمز للانحلال والخطيئة الغربية ولا بد من اجتثاثه، ما عرض 180 دار سينما، من أصل 451 منتشرة في البلاد، إلى الحرق أو التدمير أو الإغلاق.
ما لبث المرشد أن استدرك على كلامه بتأكيده أنه لا يعارض السينما نفسها، إنما يعارض الرذيلة.. السينما من رموز الحداثة التي يجب أن تكون في خدمة الشعب، من أجل تعليم الناس”، وأضاف محددا الإطار الأيديولوجي الجديد لإيران “في الدولة الإسلامية، كل شيء يجب أن يكون إسلاميا”، معلنا بذلك مراجعة موقفه الراديكالي من الرفض المطلق لهذا الفن، نحو القبول به شريطة التقيد بتعاليم أصحاب العمائم.
دخلت السينما إيران قبل ولادة الخميني، فالوقائع تفيد بأن مظفر الدين شاه، الشاه الخامس في السلالة القاجارية، هو من أحضر أول آلة تصوير سينمائي إلى البلاد 1900، إثر زيارته فرنسا. افتتحت أول قاعة للعروض السينمائية بعد أربعة أعوام، على يدي ميرزا إبراهيم خان، واقتصر عرض الأفلام الصامتة القصيرة على شهر رمضان فقط.
انتشرت قاعات العرض في الدولة، بحلول 1912، وتولت عرض الأفلام الغربية المدبلجة إلى الفارسية، حتى 1929 موعد إنتاج أول فيلم سينمائي ناطق في إيران. وجبت الإشارة هنا إلى إسهامات الأجانب القوية في انطلاقة السينما الإيرانية، فإنتاج هذا الفيلم كان من ثمرات أول مدارس الفن السينمائي، تأسست على يدي مهاجر أرمني يدعى أوانيس أوانسيان، التي تولت إنتاج أول فيلم إيراني صامت 1911، يناقش الصراع بين الأفكار المحافظة والفن السينمائي.
احتكر أهل البلاط والأعيان وعلية القوم هذا الفن في بداياته، قبل أن يصبح مشاعا بين الناس، تحديدا 1930 تاريخ افتتاح سينما بالاس، أول قاعة فخمة للعرض السينمائي في إيران، وزاوجت في عروضها بين الأفلام الأجنبية، خاصة المستوردة من روسيا والهند، المترجمة إلى الفارسية، والأفلام الإيرانية المنتجة محليا أو في دول أجنبية.
هكذا كان حتى 1979 عقب انتصار الثورة، حيث تشنجت علاقة الحكام الجدد بالفن السابع، فأغلقت 180 دار للعرض، وسحب ما يفوق ألفي فيلم من السوق لإعادة الفحص والرقابة، وكان هذا التوجه الجديد يفرض على الفيلم اجتياز أربع مراحل، قبل وصوله إلى المشاهد الإيراني. وزاد إسناد استيراد الأفلام الأجنبية إلى مؤسسة الفارابي، التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي من تأزيم الوضع، فأغلب من أسندت إليهم صلاحية تدبير الملف لا علاقة لهم بالميدان الفني.
كان تأثير حملة التطهير والارتقاء” بالفن قاسيا على المبدعين الإيرانيين، وظهرت محاولات لكسر سلطة الرقيب، وصناعة توليفة خاصة، نسجت تيارا داخل هذه السينما، يرفع تحدي الإبداع في ظل الاختناق. إنها سينما تقول الأشياء دون أن تسميها، وتعرض للحياة دون تصريح، حتى بات المشاهد حائرا حيال المضمون، أهو مقصود فعلا أم مجرد تأويلات خاصة به.نجح المبدعون في مقاومة الرقابة بنصوص ذكية توظف الرموز المحلية، فنسجت السيناريوهات لترسم واقع المجتمع الإيراني، وتكشف عن تفاصيل المعيش اليومي بآماله وآلامه في قوالب أبطالها أطفال صغار أطفال السماء، باران…. هكذا تمكن صناع السينما في إيران من إخفاء الرسائل في ثنايا التفاصيل، بطريقة جمالية وحس شاعري، لدرجة أن ناقدا سينمائيا إيرانيا قال: “إن مهارة التورية أهم في هذه السينما من المهارات الفنية والتقنية التي تحتاج إليها صناعة الفيلم.
أدرك رجال المرشد الجاذبية الكبيرة للسينما في صفوف المجتمع، فجاء قرار مصالحة النظام مع هذا الفن، بإيلائه العناية المستحقة والدعم والتشجيع، فأنتجت الأفلام السينمائية على مقاس النظام، مفعمة بالأيديولوجية المذهبية والطائفية. ومعها أفلام مستقلة لإضفاء نوع من المصداقية على السينما، ففي هذا السياق أنتج فيلم طعم الكرز (1997)، الذي يحكي قصة رجل يبحث عن شخص ما ليدفنه بعد أن ينتحر، للمخرج عباس كيارستمي، الذي فاز بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي.
بمجرد ظهور بوادر التلقي الحسن للسينما لدى الإيرانيين، دخل الحرس الثوري الإيراني على خط صناعة الأفلام، ليدشن منعطفا جديدا في تاريخ السينما الإيرانية، وكانت البداية 2011، بعد تأسيس قيادة الحرس منظمة أوج للفنون والإعلام، كرد فعل على الأحداث التي رافقت الانتخابات الرئاسية 2009، وظهور ما يعرف باسم الحركة الخضراء، فما جرى، في نظر قيادة الحرس الثوري، كان جراء استهداف مبادئ الثورة الإيرانية بالغارات الثقافية الأجنبية، ممثلة في الأفلام الأجنبية.
استغلت المنظمة الأموال المتدفقة من الحرس الثوري، فاندفعت بقوة إلى مجال الإنتاج الثقافي، خدمة لطموح المرشد وقاسم سليماني ذراعه اليمنى، فأطلقت الدعاية الإعلامية لشرعنة وتبرير التدخلات الخارجية لإيران، والتأثير في نظرة الإيرانيين إلى الحروب خارج الحدود. ثم توالت الأفلام السينمائية، في المنحى ذاته، بقصص وسيناريوهات مختلفة، مع بقاء الحفاظ على الغاية والهدف ذاتهما.
في فيلم الحارس الشخصي (2016) أحد إنتاجات مؤسسة أوج نجد قصة محارب قديم يراوده الشك في طريقة تدبير البلاد، وفي هذا نقد صريح لحكومة روحاني، وهذا تجسيد للصراع بين المحافظين والإصلاحيين، تمكن في النهاية من العثور على هويته، عندما واجه ذكريات رفيقه الذي قتل خلال الحرب العراقية الإيرانية، وكلف بحماية ابنه، الذي أصبح عالما نوويا معرضا لخطر الاغتيال.
إنه ديدن الأنظمة الشمولية في العالم عبر التاريخ، لا تدع مجالا إلا واقتحمته خوفا من الفتنة، فأساس بقائها رهين بمدى إحكام السيطرة على الشعب، وتطويقه بأوهام أيديولوجية وطائفية ومذهبية في السياسة والاقتصاد والثقافة والرياضة والفن، وكل مناحي الحياة، أملا في سباته لضمان البقاء في السلطة. لكن أسلوب تخدير الشعوب ولى في زمن الثورة الرقمية، التي كسرت الحدود وألغت الحواجز وأسقطت الرقابة.