ربما لا توجد سينما تدور حول نفسها كما تفعل السينما العربية، وبالحسبان ذاته، ربما لا يوجد فيها نوع يدور حول نفسه كما تفعل السينما غير الروائية، وفقًا لما ذكرته جريدة الشرق الأوسط.
سمّها وثائقية، سمّها تسجيلية لا فرق، المهم أنها في معظم ما تنتجه لا تُثير الكثير من الاهتمام وأقل من ذلك من النجاح لدى الجمهور العربي، إلى حد بعيد، ما زال يفكّر في الفيلم كحكاية، لا يريد الواقع فهذا متوفر على محطات التلفزيون وفي نشرات الأخبار و«ما الذي سيضيفه الفيلم التسجيلي العربي من جديد بالنسبة لي؟».
هذا نوع من الاستسلام لحال ووضع قائمين يوظّفهما معظم المنتجين والمموّلين العرب كصابون يغسل أيديهم من عملية تفعيل هذا النوع من السينما على نحو مجدٍ لهم ومجدٍ لصانعي هذه الأفلام، لذلك ليس غريباً أن نلاحظ أن المخرجين العرب «الذين كثيراً ما يقومون كذلك بدور المنتج شاءوا أو أبوا» يتوجهون غرباً بسيناريوهاتهم المثيرة للاهتمام، هناك يقرأها المعنيّون ويحققون ويقترحون أو يشترطون… بعد ذلك يعود المخرج لبلده لكي يحقق الفيلم الذي ربما يعكس نصف ما كان يدور في خلده.
وحتى لو حقق كل ما في خلده فإن ذلك لم يكن ليتم لولا تلك الجهات الغربية التي تفتح صنابير المياه وتغلقها، ولو وضعنا قائمة بالأفلام التسجيلية التي تم تحقيقها في السنوات القريبة الماضية لوضح هذا الاعتماد الكبير على المنتجين الغربيين، لا العرب.
اتجاه جديد
إذا ما كان الوضع على هذا النحو، وهو على هذا النحو عملياً، فإنه محصور في الدول العربية غير المنتظمة ضمن سياسة تسويق وتوزيع تضمن عائداتها من الداخل، كذلك في دول فقيرة لا تُلام إذا لم يكن لديها صناعة روائية أو غير روائية، أما العالم الخارجي، والغربي على وجه التحديد، فهو ملىء بالفرص والإنتاجات التسجيلية التي يكبر سوقها عاماً بعد عام… «كورونا» أو غير «كورونا».
لسنوات قريبة خلت، كان الفيلم غير الروائي ضحية وضع غير مريح، حفنة فقط من الأفلام المنتجة ضمن هذا «الفورمات» كانت تستطيع استقطاب نجاح تجاري، أفلام مثل «أحلام الطوق» «Hoop Dreams» لستيف جيمس 1994 و«الرقصة الأخيرة» « The Last Waltz» لمارتن سكورسيزي 1978، سقطت في الشق بين الهواية والضرورة، كذلك حال أفلام تم اعتبارها سياسية لا تخدم السواد الأغلب من المشاهدين مثل «الضباب والحرب» «The Fog and War» لإيرول موريس 2003 و«باولينغ لكولمبيا» «Bowiling for Columbia» لمايكل مور 2002 والعديد غيرها.
أما أفلام الأمس البعيد، مثل «انتصار الإرادة» «Truimph of the Will» لليني رافينستول 1938 أو «نانوك الشمال» «Nanook of the North» لروبرت فلاهرتي 1922 فتم اعتبارها جزءاً من السينما لهواة متخصصين فقط، باحثون ومحاضرون وطلاب أكاديميون.
في السنوات القريبة الأخيرة تغيّر الحال على نحو كبير، لم تتغير المواضيع المطروحة في اتجاه جديد بقدر ما حرّكت مزيداً من الاهتمام لدى الجمهور السائد، الجوائز السنوية الممنوحة من قِبل مؤسسات وهيئات سينمائية «بافتا، الأوسكار، غويا، سيزاز إلخ…» ساهمت كثيراً في دفع السينما التسجيلية إلى صف متقدّم، كذلك المحطات التلفزيونية المتخصصة ثم المؤسسات التي تطرح أفلامها مباشرة إلى المنازل «مثل أمازون وغولو ونتفلكس… إلخ».
ثلاثة من الأفلام الخمسة المرشّحة للأوسكار هذه السنة هي من إنتاج هذه المؤسسات، تحديداً «تايم» أنتجته أمازون، و«معسكر المعاقين» «Crip Camp» و«أستاذي الأخطبوط» «My Octopus Teacher» وأنتجتهما «نتفلكس».
هذا الأخير فاز بجائزة بافتا البريطانية كأفضل فيلم تسجيلي، حققه في جنوب أفريقيا كريغ فوستر وأخرجه كل من بيبا إرليتش وجيمس ريد، حول غطّاس مولع بحياة البحار اسمه كريغ فوستر نتعرّف عليه في منزله البعيد القائم عند لقاء الأرض بماء المحيط الأطلسي، تصوير فذ للطبيعة الهادرة في ذلك الركن من العالم وآخر لا يُنسى تحت سطح الماء عندما يلتقي كريغ بأخطبوط متوسّط الحجم يقطن في مخبأه، لنحو نصف الفيلم «نحو 40 دقيقة» نتعرف على طبيعة هذا الحيوان المائي الغامضة الذي صوّرته «ديزني» سنة 1954 عملاًقاً شرساً يلتف حول الغواصة التي يقودها كيرك دوغلاس محاولاً الفتك بمن فيها.
جمال المحيط وفساد المدينة
في الواقع، يؤلّف الفيلم علاقة تعاطفية نموذجية بين المُشاهد وبين ذلك الحيوان الذي يصطاد كما يُصاد، لكن العلاقة الأقوى هي تلك التي نشأت بين ذلك الأخطبوط الأنثى وبين كريغ والتي امتدت على مراحل تُتوّج بذلك المشهد الذي يلتصق فيه الأخطبوط بصدر الغطّاس كما لو كان يسمع نبضات قلبه.
في اليوم 324 من البحث والتصوير «مذهل ومتقن من روجر هوروكس الذي صرف موهبته على أفلام وثائقية حول الطبيعة والبيئة» التقى كريغ بذلك الأخطبوط لآخر مرّة، وشاهده وقد تعب من الحياة واصطادته سمكة قرش ومضت به بعيداً، ينتقل الفيلم ما بين مشاهد البحر وبين مشاهد لكيفن وهو جالس أمام الكاميرا يروي هذا الجزء من قصّة حياته وكيف أن الأخطبوط علّمه أن الإنسان والحيوان يلتقيان في أكثر مما نعرف من نقاط وطبائع، هناك بعض المغالاة تتسرّب إلينا تدحضها الصورة الماثلة في أكثر من مكان.
أما «معسكر المعاقين» فهو نوع مختلف من الأفلام مضموناً وشكلاً، هو كما يذكر العنوان، عن المعاقين والعيش في مجمع مشيد لهم ليس بعيداً عن المكان الذي شهد في السبعينات أكبر مظاهرة موسيقية إلى اليوم «وودستوك»، لقطات أرشيفية لعدد منهم من بين عشرات الآلاف الذين حضروا ثلاثة أيام من الموسيقى والغناء وهم يحاولون الرقص على أنغام وكلمات ريتشي هافنز وغيتاره حين أدّى أغنيته «فريدم»، الفيلم يمضي لكي يستوعب كيف يتدرّب هؤلاء على الحياة رغم معيقاتهم التي وُلدوا بها، في كثير منه هو فيلم «أخرجه جيمس لبرشت ونيكول نيومهام» صعب المشاهدة لكنه على صعيد إنساني بحت من تلك الأفلام التي تتقصّد منحنا معرفة كبيرة بالمعاقين ونجاحهم في الإمساك بأهداب السعادة رغم عوائقهم.
الأفلام الثلاثة الأخرى التي تنتظر يوم الأحد المقبل الفوز بأوسكار أفضل فيلم تسجيلي تتضمن «تايم» لغارت برادلي، الذي كان حُكم عليه بـ60 سنة في السجن لاشتراكه في سرقة أحد المصارف، قضى منها نحو 25 سنة قبل خروجه ولجوئه للكاميرا لصنع فيلم عن حياته وحياة زوجته مؤلّف في الغالب مما صوّرته الزوجة من أفلام بيتية «Home Movies» تعكس الأمل كما الإحباط والحب والصبر والسعي لانتزاع زوجها من السجن ليكون بجانبها.
«الجاسوس» «The Mole Agent» لمايتي ألبرتي فيلم مبتكر وله طرافة: تحري خاص يزرع عميلاً يتجسس له على أسرار مؤسسة لرعاية العجزة يُعتقد أنها تبتز وتسىء معاملة مرضاها، المأوى «يقع في تشيلي» يستقبل العميل المندس من دون ارتياب، هذا يستخدم كاميرا خفية كتلك التي رأينا جيمس بوند يستخدم بعضها في أفلامه «كاميرا في قلم حبر أو نظاره»، النتيجة فيلم تسجيلي بأسلوب روائي ومشاهد تكاد لا تُصدّق.
يلتقي «الجاسوس» مع «جمعي» للروماني ألكسندر ناناو في أنه يريد كشف اللثام عن مساوىء البشر، في «جمعي» كشف موثّق لحال من الفساد المستشري في القطاع الحكومي بأسره، ينطلق من حادثة وقعت سنة 2015 عندما أتت النيران على ملهى وأنهت حياة 64 شاباً وشابّة «بينهم 27 قُتلوا خلال الحريق بينما مات الآخرون خلال الأيام اللاحقة» يتابع الفيلم التحقيق الرسمي، وذلك الخاص الذي يكشف عن أكاذيب الأول ويوزع مسؤولية التهرب من المسؤولية على قطاعات عدة.
لن يكون سهلاً اختيار أحد هذه الأفلام، أو ثلاثة منها على الأقل: «أستاذي الأخطبوط»، «الجاسوس» و«جمعي».