“السر في حياة سعيدة هو الاحترام، احترام الذات واحترام الآخر”
عياد أخطار، ممثل وكاتب حائز على جائزة البوليتزر
كثيرا ما ننظر إلى السينما على أنها حمالة شر وعنف ولا ننظر إلى الوجه الايجابي على أنها حمالة خير وتسامح. من السينما يمكن أن نتعلم طقوس الاحترام والتقدير، ومنها أيضا نتعلم القبح والعنف.
ما الذي يجمع السينما بالاحترام؟ وكيف تتأسس هذه العلاقة الشائكة؟ وكيف يمكن أن نتعلم من السينما طقوس الاحترام؟ وهل هناك بالفعل سينما محترمة وسينما تخدش الحياء وتقلل من الاحترام؟ وهل يمكن الحكم على السينما انطلاقا من أبعاد أخلاقية صرفة؟
سينما الاحترام بحس أخلاقي:
السينما فن بأوجه متداخلة وهي حمالة أوجه، وهي مثل لعبة النرد لا يمكن أن تبقى على حالها. في السينما اليابانية يكاد طقس الاحترام يسيطر على هذه السينما ويستأثر بالمُشاهد في كل المَشاهد وأغلب الأفلام تحفل بطقس الاحترام المتبادل بين الشخصيات في علاقتها بالأمكنة، حيث التحايا الواجبة والمفروضة بين الصغار والكبار في السلام والكلام والأكل…
في كل مشهد نشهد على تزايد هذه القيمة الأخلاقية والحدود المفروضة بين الأطراف… حتى في زيارة المعابد والدخول إلى المدارس والمعاهد… نجد مفهوم الاحترام حاضرا، يأخذ حيزا كبيرا في بنية الشخصيات وفي التنشئة الاجتماعية، مما يفرض علينا نوعا من المقارنة بين هذا الانضباط الكبير وهذا التنظيم المنجز بحس أخلاقي كبير وبين هذا الاحترام الذي يهرب فينا أجيالا بنوع من التباعد والحسرة.
في هذه السينما تتجنب الكلام الساقط والهوات السحيقة والمنزلقات والمشاهد الفاضحة وتكتفي بالإشارات والتلميحات دون الغوص بعيدا في مشاهد البوح والفضح.
تنازع فكرة الاحترام:
يرفض الكثير من المخرجين فكرة وجود سينما بالمفهوم الأخلاقي معتبرين أن ليس هناك فنا محترما وفنا غير محترم، ولكن هناك فكرة يدافع عنها المخرج في قوالب إبداعية ووفق ما يتطلبه المشهد الدرامي من جرأة وحضور وحوار كاشف…
لكن هناك تيار من المخرجين والممثلين ينزعون أن السينما والفن عموما يجب أن تغلفه قيم الاحترام دون الانحدار في مهاوي الإسفاف والرذالة والمشاهد الفاضحة وتكرار القبل والممارسات الجنسية… المفتعلة وإقحامها في العمل الفني، التي تسيء إلى الفيلم برمته باعتباره يوجه إلى جمهور عام ومختلط.
بين هذين الرأيين، هناك من يتبنى مبدأ الوسطية دون تقييد لمبدأ الحريات والاشتغال على فكرة تحمل موقفا وفق ما يتطلبه الموقف الدرامي.
مشاهد الاحترام:
تعج السينما الأمريكية والعالمية بمشاهد نمطية تتأسس على فكرة الاحترام وتتكرر هذه المشاهد بكثرة؛ ففي الأفلام الجندية والحرب يعمد الجنود إلى دفن رفاقهم والوقوف دقيقة صمت ترحما عليهم في بادرة لاحترام إنسانيتهم وصداقاتهم. وفي الأفلام الأمريكية وفي أفلام الشرطة يطلق رجال الشرطة 21 طلقة رصاص تأبينا لرفاقهم وهم يوارون الثرى للمرة الأخيرة. مشاهد الدفن تتم وفق تصور منظم يراعي الجوانب الإنسانية للفقيد، ويركز على مشاهد الحزن والأسى التي تعيشها الأسر المكلومة.
كما تراعي السينما الأمريكية كثيرا قيمة الاحترام، وخاصة العلاقات التي تجمع بين الأطفال وأسرهم، وتضفي عليها مزيدا من الدفء والمعالجة الدرامية التي ترتكز على الحوار والإنصات وحس المسؤولية والانضباط والتنظيم.
داخل الكنائس والمساجد… تعمل السينما الأمريكية على احترام الأديان وصون حرمة مكان العبادات في كثير من الأحيان، دون الخوض كثيرا في الصراعات والجدل الذي يرافق المقدس والمدنس.
تنقل السينما عموما احترام السر المهني للأطباء والمحامين… مع مرضاهم ومع موكليهم واحترام مساحة هذه العلاقات. وكذلك نجد احتراما لقيمة الإنسان وللمرضى داخل المستشفيات وداخل السينما الأمريكية والعالمية والعربية بشكل جذري، مانحة صورا نمطية عن قيمة الاحترام وطقوسه.
كما تصور السينما علاقة الاحترام مع الحيوان، سواء كان كلبا أو قطا… واحترام كينونة وجوده، وفي كثير من الأحيان الموت من أجل حيوان أليف عزيز على النفس. كما تصر السينما الأمريكية على احترام الأعراق بين الأبيض والأسود… حفاظا على الروح الإنسانية داخل المجتمع وإشاعتها دون تنامي موجات التطرف والعنصرية.
على شاكلة الشعر العذري في الشعر العربي هناك أفلام تنحو النهج نفسه، وتحاول السيطرة على الكتابة الفيلمية وخلق أفلام بشغف عذري دون أن تغوص بعيدا في ثنايا المشاهد الإباحية وما تحمله من حميمية وحرقة الأشواق.
السينما وتخطي المقدس:
في موجة جديدة للسينما المغربية بتخطي الممنوع والممتنع، خاصة في أفلام “كازا نيغرا”، “الزين للي فيك”، “ماروك”، “كازا باي نايت”، “زيرو”، “دالاس”… لا تسمع ولا ترى سوى حوار مشبع بالإيحاءات الجنسية والكلام “الساقط”، ومعه ضحكات الجمهور التي تتعالى وسط القاعات السينمائية التي تكسر صمت الأجواء صخبا دون إقامة للحدود وللأعمار وللخصوصيات.
يبرر المخرج المغربي… بأنه الواقع المغربي دون خدش وكما هو، وبأنها سينما صادقة عن صورة المجتمع وما يعتريه من مشاهد البؤس والانحطاط دون زخرفة هذا الواقع وتزيينه بكلام معسول. في هذه العينة من هذه السينما جرأة كبيرة ونسب مشاهدة عالية ومتابعات نقدية وخصام وخصومات وتشنجات بين دعاة المحافظة ودعاة التحرر تصل في بعض الأحيان إلى التهديد بالقتل والكفر والوسم بالفجور.
هنا تتخطى هذه السينما العتبات الإنسانية والفنية وتنتقل إلى أبعاد إيديولوجية محضة تحقر الفن وتجعله مبتذلا، بل وتطال المخرجين ومعهم الممثلين على أنهم “دمى غربية” وأداة تخريب للمجتمع المغربي والعربي وهدم مقدساته، وقس على ذلك سينمات عربية مصرية، تونسية، سورية، لبنانية… تواجه بخطاب ديني تحريضي متزمت لا يرى في الفن والسينما سوى إسفاف وفجور وزندقة.
السينما بهذا المعنى التحرري تأخذ على عاتقها كشف المستور وإبراز بواطن الفساد وتجلياته، ويعتبر المخرجون أن اللغة المستعملة/ الدارجة / لغة الشارع/ ليست سوى وجه شفاف لما يعتري المجتمع العربي من ظواهر أضحت طابوهات يكتنفها المقدس والممنوع تنأى الأغلبية عن الخوض فيها بدعوى الحفاظ على قيم المجتمع وأسسه.
كذب الدبلجة العربية:
تتحاشى الترجمة والدبلجة العربية للأفلام الغربية الخوض في تفاصيل الحوارات المحملة بالسب والشتم والإيحاءات الجنسية… بدعوى أن المجتمع العربي يرفض هذه الحوارات جملة وتفصيلا بنقلها على شكلها الفج بتدخل وتصرف من المترجم والمؤسسة التي يشتغل معها بالقفز مرارا على بعض الحوارات التي تحمل معاني وجملا خادشة لقيم المجتمع العربي، ولكن مفارقة صارخة على أن الحوارات تبقى على حالها في لغتها الأصلية سواء بالانجليزية أو الفرنسية أو الاسبانية…
ونجد أنفسنا أمام نوعين من التلقي؛ الأول للعارفين بهذه اللغات والملمين بالكثير من طباع المجتمعات الغربية وبالاحتكاك بالثقافة الغربية عموما، وجمهور ثان يؤطر ضمن ثقافة هشة مشبعة بالتأويلات الجنسية والحرمان ويعاني أنماطا من التواصل ويغلف كل شيء لصالحه بثقافة الحشمة والوقار والاحترام والعفة.
نصل إلى أن هذه الدبلجة غير صادقة وغير أمينة تحرف الكثير من القول وتعوضه بكلام منمق يتماشى مع السير العام للطبيعة المحافظة للمجتمع العربي ظاهريا…
بين المقدس والممنوع
في الفيلم الوثائقي الأمريكي “زوفيليا” الذي يعالج ظاهرة تعاطي البعض للجنس مع الحيوانات، رصد مخرج الفيلم سيرة مهندس أمريكي بشغفه ممارسة الجنس مع الحيوانات وتتبع الأمكنة دون أن يصور تلك الممارسات واكتفى بالإشارة إليها… في المجتمع العربي الذي تعتريه هذه الظواهر ذات الأبعاد الأخلاقية والجنسية، لا يستطيع العديد من المخرجين العرب حتى الخوض فيها، ومجرد الإيحاء إليها يعتبر إساءة وهو إيقاظ مبطن للشهوات والغرائز والكشف عن أهوال وجب أن تبقى في طي الكتمان والنسيان.
المرونة التي عالج بها مخرج فيلم “زوفيليا” ظاهرة تستعصي على الجميع بينما تقف سينما البورنو بوجه مكشوف، لها نجومها وأبطالها ومواضيعها الايروتيكية والشبقية، وتوزع على مرمى حجر وتنتشر انتشار النار في الهشيم في العالم العربي بين صفوف المراهقين والمتعطشين لبوح الغرائز. المفارقة هو انتشار هذه السينما الفضائحية سرا وعلانية دون رقيب، بينما تعلو الأصوات أمام مشهد بسيط يحتوي على قبلة أو عناق باعتباره يهدد كيانات المجتمعات العربية.
يطرح البعد الأخلاقي معضلة كبيرة للسينما العربية في تعاطيها مع مواضيع بحد ذاتها، التي تدخل في خانة الممنوع والمقدس؛ أولا على مستوى حرية الأفراد في رؤية ما يعشقونه وما يعتقدون به من جهة، ومن جهة ثانية في القدرة على تجاوز الاختلاف وترسيخ قيم التسامح.
نجد أنفسنا أمام سينما كونية وإنسانية يجب أن يراعى فيها حق الاختلاف وحالات الفن دون إخضاعه للدروب الأخلاقية والأهواء النفسية التي تصنفه بين ثنائيات الحلال والحرام، الشرعي وغير الشرعي، المحترم وغير المحترم، اللائق وغير اللائق، بل يجب إخضاعها فقط للمضامين الفكرية والأنساق الفلسفية الكبرى في تناول وجهات النظر من مدلولات مختلفة دون سيطرة نمط معين أو وجهة نظرة واحدة أو معتقد واحد أو مغالبة فكرة بائسة على السير العام لمحتوى العمل الفني.