أمير العمري
كان الفيلم الإيطالي “مربي الكلاب” Dogman للمخرج المرموق ماتيو غاروني، أحد أفضل الأفلام التي عرضت في مسابقة مهرجان كان الـ71، وبه عاد مخرجه إلى المسابقة للمرة الأولى منذ أن شارك بفيلم مختلف تماما في أسلوبه هو “حكاية الحكايات” (2015). أما الفيلم الجديد فهو يستند إلى شخصيات وأحداث حقيقية وقعت في روما عام 1980.
في أحد مشاهد “مربي الكلاب”، يتسلق بطلنا النحيف، الضعيف، البائس “مارشيللو” جدارا ليصل إلى نافذة شقة في طابق مرتفع عن الأرض، يفتحها ويدلف إلى الداخل ليسرق شيئا، فهو يمارس السرقة وتوزيع المخدرات من وقت لآخر ليزيد من دخله كرجل يرعى الكلاب التي يعهد إليه بها زبائنه في تلك البلدة الواقعة بالقرب من نابولي في الجنوب الإيطالي.
الواضح أن هناك من سبقوا مارشيللو إلى اقتحام الشقة، والواضح أيضا أنه يعرف أنهم سبقوه، كما يعرف عما يبحث ويريد سرقته من الشقة، فهو يسارع بعد أن ينتشل حقيبة صغيرة من داخل خزانة ما في المطبخ، فيفتح درج الثلاجة لينتشل كلبة صغيرة متجمدة منكمشة من الواضح أن اللصوص الذين سبقوه وضعوها داخل علبة درج التجميد في الثلاجة ليضمنوا ألا تنبح فتكشف أمرهم.
يضع مارشيللو الكلبة تحت الصنبور.. يترك الماء الدافئ ينساب فوق جسدها النحيل.. يأخذ في تدليك جسدها كله وساقيها ووجهها بيده الخبيرة الحنونة التي تعرف ماذا تفعل وهو يتمتم بكلمات لاهثة حزينة “ماذا فعلوا بك ياصغيرتي.. ياحبيبتي.. هيا.. عودي إلي.. ابقي معي.. لا تتركيني”. تذوب طبقة الثلج المتجمد على جسد الكلبة الصغيرة، تعود إليها الحياة تدريجيا، تفتح عينيها وتتحرك، يضعها مارشيللو على الأرض ويتركها وهي تتحرك وتبح نباحا ضعيفا، ثم تتجه ببطء معه ناحية باب الشقة، يخاطبها قائلا بكل رقة وعذوبة: “كلا يا حلوتي.. لا يمكنك أن تأتي معي.. يجب أن تبقي هنا”.
لا تكتمل واقعية الفيلم إلا من خلال الأداء التمثيلي المقنع والمعبر من دون أي مبالغات وخاصة أداء مارشيللو فونتي في دور مربي الكلاب. إنه يتماهى تماما مع الشخصية وينجح بشكل مؤثر في التعامل مع الكلاب بإقناع
هذا المشهد البسيط البديع، يكشف جانبا من سحر السينما الذي يكمن تحديدا في الخيال، في الصياغة البصرية للمشاهد واللقطات، والقدرة على نسج الصور كما يتخيلها الفنان الذي يقف وراء الكاميرا، وهو يقوم بتجسيد معالم سيناريو درسه جيدا، اشترك في كتابته مع خمسة من الكتاب طبقا لتقليد راسخ في السينما الإيطالية. لكن براعة المشهد ورقته لا تكمن فقط في تقنية الكتابة بل ترقى إلى مستوى الشعر بفضل التمثيل والتصوير والإخراج: لدينا هنا ممثل فريد هو مارشيللو فونتي في دور “مربي الكلاب”، هو شخص قصير، نحيل، ضعيف، منحني الظهر قليلا، ذو عينين واسعتين. وعندما يضحك يبدو أقرب إلى البلاهة بأسنانه البارزة ونظراته المندهشة وعينيه الواسعتين. نغمة صوته حادة غريبة، تجعله مع تفاصيل وجهه وجسده وفكه البارز، كما لو كان كائنا خرج لتوه من أحد أفلام التحريك.
مارشيللو نموذج للإنسان المسالم الذي يريد أن يتجنب المتاعب بكل الطرق. هو رقيق حنون مع الكلاب التي يرعاها، فهي كائنات بريئة، تفهمه ويفهمها، كما تتمتع بالكرامة والاعتزاز بالنفس. ومارشيللو لا يمانع من تناول الطعام مع أحد هذه الكلاب من نفس الصحن، بل وبنفس الملعقة، يصحب كلابه كل صباح بعد أن يقدم لها الطعام، في جولة على شاطئ تلك البلدة الفقيرة البائسة.
لدى مارشيللو ابنة صغيرة في الثامنة من عمرها تدعى “صوفيا”، تزوره بين وقت وآخر، فهي تعيش مع أمها المنفصلة عن مارشيللو، ويأخذها في جولات بحرية في عطلة نهاية الأسبوع. وهي تحب والدها كثيرا، تريده أن يأخذها معه إلى “كلابريا” موطنه الأصلي في أقصى الجنوب الإيطالي التي جاء منها ربما هربا من تفشي العنف هناك. لكن العنف موجود أيضا هنا في هذه البقعة حيث يوجد دكان مارشيللو الغريب الذي يضع فوقه لافتة تحمل كلمة واحدة بالإنكليزية هي Dogman أي “مربي الكلاب”.
مارشيللو يرتبط بصداقة مع مجموعة من رجال البلدة الذين يترددون على المقصف، يأكلون ويشربون ويثرثرون، إنهم يشكلون معا عصبة، تجمعهم همومهم المشتركة. وهو يلعب معهم أحيانا الكرة في ساحة تلك الضاحية التي تقع خارج البلدة. ومن بين هؤلاء “فرانكو” وهو صاحب محل ملاصق لمحل مارشيللو يحمل لافتة تقول “المال مقابل الذهب” أي أنه يشتري المصوغات الذهبية نقدا. يحمل إليه مارشيللو محتويات الحقيبة التي سرقها من الحلي المطعمة بالمجوهرات، متصورا أنه سيجني من وراء ذلك ثروة، لكنه لا يحصل سوى على 300 يورو فقط، فالرجل يقول له إن ما يهمه منها الأجزاء الذهبية فقط.
في البلدة شاب طفولي الوجه لكنه عملاق ضخم الجثة، مفتول العضلات، متجهم يذكرنا في ملامحه بالملاكم جاك لاموتا بطل فيلم سكورسيزي “الثور الهائج” الذي تقمصه ببراعة روبرت دي نيرو. يقطع سوني البلدة طولا وعرضا، بدراجته النارية التي تصدر صوتا مزعجا، لا يتورع عن الفتك بكل من يقف في وجه حصوله على المخدر الذي أدمن عليه، الكوكايين.
وهو يلجأ من وقت لآخر، إلى صاحبنا المسكين المغلوب على أمره “مارشيللو” يطلب منه أن يزوده بالمخدر، فمارشيللو يرتبط ببعض من يتاجرون بالكوكايين. لكن سوني لا يدفع ثمن ما يتعاطاه، وقد تراكمت عليه الديون بالآلاف. وإذا تجرأ مارشيللو أو التاجر الأصلي- كما نرى- على المطالبة بأن يدفع سوني الديون المستحقة عليه، أوسعه ضربا وكاد يفتك به. لكن مارشيللو يرتبط رغم كل هذا العنف، بصداقة مع سوني، يبدو منبهرا بشخصيته، فهو يخشاه لكنه في الوقت نفسه يكن له إعجابا ربما لأنه يمتلك ما يفتقده هو بتكوينه الضعيف.
مجموعة شباب البلدة، يجتمعون، ومعهم مارشيللو، يبحثون كيف يوقفون هذا العنف الجنوني الذي يهددهم جميعا، أي كيف يضعون حدا لحماقات سوني. يقترح أحدهم تصفية سوني لكن اقتراحه يلقى معارضة شديدة من جانب فرانكو. تفشل محاولة اغتيال سوني، فيصاب فقط برصاصة في كتفه، لكن من سخرية القدر أن يكون مارشيللو هو من ينقذه، ويحمله فوق دراجته النارية التي يقودها بنفسه إلى حيث تقطن والدته ويقوم هناك بنزع الرصاصة وتطهير الجرح. بعد مرور وقت يأتي سوني الباحث بشكل دائم عن المال إلى محل مارشيللو.. يقترح عليه أن يحدث فتحة في الجدار الفاصل بين دكانه ودكان تاجر الذهب المجاور.
يرفض مارشيللو بقوة ويتشبث بالرفض. فهو يرى أن هذه الخطوة يمكن أن تؤدي إلى إنهاء علاقته بأصدقائه بل بالبلدة كلها. إنه يرفض تجاوز هذا الخط الأحمر الذي وضعه لنفسه في علاقته بالآخرين. لكنه سيضطر تحت التهديد، للرضوخ. وتكون النتيجة أن يدان هو ويفلت سوني بعد أن يرفض مارشيللو تحت الترغيب والوعيد من جانب ضابط الشرطة، أن يشهد ضده. يدخل مارشيللو السجن حيث يقضي عاما ثم يخرج ويعود إلى دكانه ليجده قد تحول إلى حطام وأصبح في حاجة إلى إعادة بناء وترميم. وهو بحاجة إلى المال، فيذهب إلى سوني يرجوه أن يفي له بوعده أي أن يعطيه نصيبه من سرقة الذهب. في حين أن سوني ليس لديه ما يعطيه. يحاول مارشيللو الانتقام بتدمير دراجة سوني النارية، لكي ينال علقة ساخنة من العملاق المدمن تتسبب في تشويه وجهه.
تستيقظ شهوة الانتقام، ويصبح هذا القصير الضعيف البنية قادرا على التخطيط والتدبير وإنفاذ قراره الخاص بالانتقام بأكثر الطرق بشاعة. يخرج أخيرا إلى شاطئ البحر مع مجموعة من كلابه وهو يشعر للمرة الأولى بالتحرر، لكنه أصبح أيضا وحيدا مقضيا عليه بالمغادرة، وينتهي أحد أفضل الأفلام التي خرجت من بلد الواقعية الجديدة في السنوات الأخيرة.
ماتيو غاروني (49 سنة) الذي أتحفنا من قبل بفيلمه الشهير “غومورا” (2008) Gomorrah عن عصابة المافيا الشهيرة ونال عنه “الجائزة الكبرى” في مهرجان كان، يعود هنا إلى أجوائه الواقعية التي يجيد تجسيدها ولكن من خلال دراسة شخصية رجل منسحق بائس يتحول إلى وحش كاسر، مع تصوير اجتماعي دقيق للبيئة المحيطة، فكل شيء في هذا الفيلم يبدو منقولا مباشرة من قلب الواقع؛ الأماكن والشوارع والبيوت والمقهى والمقصف والمحلات، الأركان المظلمة في البلدة، الساحة الخالية المليئة بالنفايات والقاذورات وعلى طرفها يوجد محل مارشيللو. أما الكلاب في الفيلم فهي تراقب وتشاهد المصير السيء الذي ينتهي إليه سوني في النهاية عندما يتم إدخاله أحد أقفاص الكلاب في محل مارشيللو، وما يعقب ذلك مما لا نريد الكشف عنه حتى لا نفسد الحبكة أمام من يريد أن يستمتع بمشاهدة هذا العمل البديع.
مدير التصوير نيكولاي برويل يستخدم مصادر الضوء الطبيعي، يتابع بطله في المشاهد الخارجية وهو يلهث وراء سوني بالكاميرا المحمولة المهتزة التي تخلق طابعا تسجيليا، يجعل من زوايا التصوير خاصة في المشاهد الداخلية لمحل الكلاب، أداة لتجسيد علاقة مارشيللو بكلابه، ثم علاقته بابنته عندما تزوره، وتصويره المميز لمشهد نقل مارشيللو لسوني على الدراجة النارية وهو لا يفتأ يتطلع إلى سوني الذي يسند رأسه على كتفه كأنما مارشيللو قد أصبح يشعر الآن بالسيطرة عليه بعد أن كان يستجديه ويتضرع إليه في المشهد الأول من الفيلم أن يغادر المحل بعد أن حصل على لفة من الكوكايين، لكن سوني يصر على أن يستنشق المخدر داخل المحل، في وجود ابنة مارشيللو.
يتعمد السيناريو عدم إظهار أي شيء يتعلق بالفترة التي قضاها مارشيللو في السجن، رغم تحذيرات ضابط الشرطة له من أنه سيتعرض داخل السجن نتيجة ضعفه وجبنه، لشتى صنوف الاعتداءات في إشارة إلى الاعتداء الجنسي، من دون أن يثنيه هذا عن رفض “التورط” بتقديم شهادة ضد سوني من أجل إدانته وبالتالي يخرج هو من القضية تماما ويعود إلى بيته كما يعده الضابط. هل كان إصراره هذا نتيجة الخوف، أم بسبب الجشع والرغبة في الحصول على قسط من الغنيمة؟ أم للسببين معا؟
لكن يمكن للفيلم عبر الكاميرا إضهار تحول رجل جبان إلى الشدة والعنف بعد أن كان يحاذر أن يتجرأ ويرفع صوته في وجه سوني، هل أصبح العنف في هذه البلدة البائسة بحياتها الرتيبة الفارغة، قدرا لا فكاك منه؟ ليس المهم هنا أن نضع أيدينا على تفسير نفسي للدراما التي نراها فهناك الكثير من الأمور الخفية في النفس البشرية، وكل هذه التفسيرات ممكنة، لكن المهم هنا هو ذلك التصوير البارع المؤثر للشخصية في علاقتها بالعالم، بعالمها الضيق المحدود الخانق، حيث يصبح العيش في السجن الصغير ربما أكثر ضمانا من الحياة في السجن الكبير.
لا تكتمل واقعية الفيلم إلا من خلال الأداء التمثيلي المقنع والمعبر من دون أي مبالغات وخاصة أداء مارشيللو فونتي في دور مربي الكلاب. إنه يتماهى تماما مع الشخصية وينجح بشكل مؤثر في التعامل مع الكلاب بإقناع. وقد وصفه المخرج غاروني بأنه “بستر كيتون الإيطالي” فهو قادر على التعبير الصامت بوجهه وحركاته الجسدية، وقد سبق أن ظهر في دور ثانوي في فيلم “عصابات نيويورك” لسكورسيزي، وقال إنه ظل يتدرب لمدة ثلاثة أشهر في بيت مخصص لتربية الكلاب إلى أن أصبح يجيد التعامل معها ويعرف كيف يكتسب ثقتها، قبل أن يبدأ تصوير أول بطولة سينمائية مطلقة له في هذا الدور الذي أخرجه من الظل إلى دائرة الشهرة بعد فوزه بجائزة أفضل ممثل في مهرجان كان.