سوليوود «متابعات»
في السينما يجلس مشاهد الفيلم بين غرباء على مقعد مخملي وثير، تُحيط به الحوائط المبطنة والأضواء الخافتة وأزيز الآلات وأنظمة التكييف، ويُمكنه مع أصغر التِفاتةٍ أن يرى لافتة “مَخرج طوارئ” هنا وهناك، وقد تقطع عليه الاستراحة حالة اندماجه مع أحداث الفيلم.
كل هذه الموانع تقف أمامه، مع ذلك يستمر في المشاهدة والتأثُّر والتصديق، أحيانا يشرع في البكاء أو ينتابه الفزع، إنه اتفاق ضمنيٌّ يعقده المشاهد مع الشاشة الكبيرة كنافذة عملاقة، يمنحها بموجبه انتباهه وتصديقه الكامل، على أن تُريه أشهى أحلامه وأفظع كوابيسه وفقا لرغبته، حسب صحيفة العرب.
رافق العلم والتكنولوجيا رحلة السينما منذ انطلاقها، إذ هي صناعة تمزج الفن والتقنية بمقادير شبه متساوية، ولا يجِدُّ جديدٌ يمكن الاستفادة به إلا وتُسرع لاستدعائه. فالتكنولوجيا تمنح منتجي السينما وسائلَ جديدة طوال الوقت، تُساعدهم في تمديد عَقد «التصديق مقابل المتعة» مع المشاهدين، إذ تُمكِّنهم من تجسيد أقصى ما يصل إليه الخيال بأعلى درجات المصداقية.
لذا نعاين اليوم تقنيات الغرافيك والصور المخلَّقة عن طريق الكمبيوتر (CGI) والصورة ثلاثية الأبعاد، غير أنها تقنيات باهظة التكاليف، تحتاج إلى ميزانيات أضخم فأضخم مع تسارع وتيرة التقدُّم واتساع الحدود المتاحة للخيال لكي يتحوَّل إلى صورة تنبض بالحقيقة.
وبالرغم من ظروف الإنتاج وصعوبات التوزيع وتحقيق الإيرادات عبر شباك التذاكر- مثلما يُتاح للأفلام الأميركية ذات الميزانيات الضخمة – فليس ثمة فرصة لاستمرارية السينما العربية دون اللحاق بهذا الرَّكب.
نديّة تاريخية
كانت السينما المصرية سريعة اللَّحاق برَكب الصناعة وإيقاعها المتسارع، إذ دأب منتجوها على تطوير أدواتهم وتوظيف كل ما يتم استحداثه من فنون وأفكار في صناعة الأفلام، لذا نجد أفلاما يعود تاريخ إنتاجها للنصف الأول من القرن العشرين، وظَّف منتجوها مؤثرات بصرية كالإخفاء والإظهار وازدواجية الصورة، مثلما نشاهد في عدد من مشاهد فيلم “بابا أمين” للمخرج يوسف شاهين (1950)، حيث يُجسِّد الروح وهي تخرج من الجسد وتتحرَّك في محيط الغرفة؛ تقنيات استمر توظيفها في السينما الأميركية حتى مطلع الستينات، وإن كان بحرفية أعلى بطبيعة الحال.
مع ذلك يمكننا القول إن ثمة ندية ما كانت موجودة بين منتجي السينما المصريين ونظرائهم في العالم، إذ لم يتطلَّب الأمر وقتها ما هو أكبر من براعة التقنيين السينمائيين وحرفيتهم العالية في الإضاءة والتصوير والمونتاج، حتى يُنتجوا مؤثرات بصرية تُقنع المشاهد وتحقق الإدهاش المطلوب.
مع استمرار التقدُّم في صناعة الخدع السينمائية خلال حقبة الستينات والسبعينات، تلك التي شهدَت إنتاج أفلام أميركية ذات ميزانيات هائلة مثل «كوكب القرود» و«حرب النجوم»، ونتيجة للتأثُّر بظروف الحرب والأزمات السياسية والاقتصادية، أخذَت صناعة السينما في مصر تتأخَّر عن الركب العالمي بمسافة بعيدة، نَحَت بالسينما التجارية نحو إنتاج أفلام ذات ميزانيات منخفضة، وبمنتجي السينما الجادّين إلى التركيز على الأفكار والمعالجات عوضا عن الخدع والإبهار.
صناعة السينما لم تعد تعتمد على مهارة الصانع في استخدام أدوات بسيطة وخُدع ذكية بل باتت تعتمد على التكنولوجيا الحديثة
فقد صار الإدهاش مُكلفا فوق ما يمكن تعويضه عبر شباك التذاكر، وفقا لظروف العرض والتوزيع داخل الدول العربية، خاصة بعد توتُّر العلاقات مع عدد منها إبان النصف الثاني من السبعينات.
مع تراجُع الميزانيات المخصَّصة لإنتاج الأفلام خلال حقبة الثمانينات، برز دور الإنتاج التلفزيوني والإمكانات المتاحة لمؤسسات الدولة، خاصة في إنتاج الدراما الرمضانية التي كانت ولا تزال تستحوذ على الاهتمام وتستأثر بالميزانيات المميزة. لمعَت خلال تلك الآونة موهبة المخرج فهمي عبدالحميد، الذي أعاد إلى الخدع البصرية أهميتها وإبهارها في مخيلة الجمهور العربي.
وبدأ رحلته في منتصف السبعينات، فقدَّم الفوازير الرمضانية التلفزيونية مع الفنانة الاستعراضية نيللي، واعتمد في تقديمها على دمج الرسوم المتحركة، التي هي تخصصه الأساسي، مع الاستعراض التلفزيوني.
وأخرج فوازير نيللي لسبعة مواسم متتالية، بداية من «صورة وفزورة» وانتهاء بأفضل أعمالهما بمشاركة الشاعر الفذ صلاح جاهين «عروستي» و«الخاطبة».
ثم قرَّر فهمي أن يخوض مغامرات متنوعة تهدف إلى إدهاش المشاهدين باستمرار، بدأها مع الفنان سمير غانم، فقدَّم بالتعاون مع المؤلف عبدالرحمن شوقي شخصية «فطوطة»، المخرج الأنتيكا، دامجا تقنيات الرسوم المتحركة وتركيب الصور في إطار كوميدي واستعراضي.
تلا هذه التجربة عددٌ من مواسم «ألف ليلة وليلة» مع الفنانة الاستعراضية شريهان، حيث أبهر فهمي عبدالحميد مشاهديه بخدع تصوِّر عوالم ما فوق السحاب وما تحت الماء.
ثورة الكمبيوتر
مثلما تسيَّد الكمبيوتر كافة مناحي الحياة، صار هو اللاعب الأهم في صناعة السينما الخيالية. فقد حدث تطوُّر هائل في برامج الكمبيوتر التي تصنع الصور المخلَّقة والنماذج المتحركة، فما عاد شيء مستحيلا على منتجي السينما، التوّاقين باستمرار إلى تجسيد أبعد ما يذهب إليه الخيال.
لم تعُد ثمة حاجة إلى تصنيع الدمى والنماذج الميكانيكية، فباستطاعة الكمبيوتر أن يُخلِّق أي شكل ويُحرِّكه في كل اتجاه، صار التحدّي الأهم هو تنفيذ ذلك بأعلى درجات المصداقية، بحيث يترسَّخ الإيهام في أذهان المتلقّين.
ابتُكِرَت تقنياتٌ مثل «لاقِط الحركة» (motion capture)، التي تستخدم ملابس خاصة مفصَّلة على أجسام الممثلين، بحيث تتصل أجزاؤها أثناء أداء المشاهد التمثيلية عبر أسلاك وحسّاسات شديدة الدقة، إلى أجهزة تُترجم هذه الحركات وتحوّلها إلى مسارات حركية (key frames) على برامج الغرافيك، هكذا يستطيع منتجو الفيلم محاكاة حركة الممثلين الطبيعية، ونقلها إلى الشخصيات المخلَّقة عن طريق برامج الغرافيك (CGI).
ما عاد الكمبيوتر يتَّصل بعالم السينما عبر نفق فرعيّ فقط، بل صار هو الطريق العمومي الذي يسير عليه المنتجون رواحا وجيئة، ويستخدمونه في الوصول إلى أي هدف يطمحون إلى تحقيقه.
لا حاجة مع وجود هذا الطريق إلى تصنيع الدُّمى وارتدائها، لا حاجة لبناء النماذج الميكانيكية وتحريكها، ولا لإلصاق لوح زجاجي أمام عدسة الكاميرا من أجل إخفاء بعض التفاصيل أوإظهارها؛ الكمبيوتر موجود، وبإمكان برامجه أن تُجسِّد الخيال مهما جنح بعيدا، وتمت صناعة أول فيلم كامل باستخدام تقنيات الغرافيك وتحريك الصور المخلَّقة على برامج الكمبيوتر، وهو فيلم «قصة لعبة» (Toy Story).
انتقل الحلم إلى إيهام المشاهدين عبر تقنية البُعد الثالث، أي الإيحاء بتبايُن عُمق الأجسام المكوِّنة للمشهد السينمائي، ما يجعل المشاهد يعيش المشهد وكأنه يحدث أمامه بالفعل.
صارت تفاصيل المشاهد أقرب إليه، وبإمكان الأجسام الطائرة في اتجاهه أن ترتطم به؛ فقد صُنِعَت الكاميرات المجهَّزة بعدستين مُتجاورتين، بحيث تلتقط نفس المشهد من زاويتين متباينتين بدرجة طفيفة، ما يُحاكي حاسة البصر لدى الإنسان وطريقتها في تحديد بُعد الأجسام، ومن ثَم دمج اللقطتين ومشاهدتهما في آن واحد عبر نظارة خاصة تسمح لكل عين بأن تلتقط المشهد من زاويتها المميزة.
واقترب المشاهد من المشهد، وقريبا سيُمكن إقحامه رأسا بداخل المشهد، سيشعر بالوحوش تطير من فوقه، وبالزواحف تعبر من بين ساقيه، والقنابل تنفجر عن يمينه وعن شماله فتزيد من تشبُّثه بالمقعد الوثير.
اللحاق بقطار التكنولوجيا
ما عادَت صناعة السينما تعتمد على مهارة التقني في استخدام أدوات بسيطة وخُدع ذكية، تُتيح له إيهام المشاهد بحقيقة ما يراه، بل صارَت أدوات الصناعة أكثر تعقيدا واعتمادا على التكنولوجيا الحديثة والتجهيزات المتطورة.
ولا يُمكن الاستمرار في الرهان فقط على التقنيين المميزين، من أصحاب المهارة اليدوية الاستثنائية والحس الفني الفريد، إذ صار لزاما على شركات الإنتاج أن تستقدم فِرقا محترفة ومتخصصة في فنون الغرافيك والمحاكاة وتخليق الصور باستخدام الكمبيوتر، وما تستتبعه من أدوات المونتاج الحديثة وتصحيح الألوان باستخدام الكمبيوتر، من أجل صناعة مشاهد خيالية مقنعة، ومشاهد واقعية التي يستحيل تنفيذها عمليّا.
يبدو أننا انتبهنا مؤخرا لضرورة اللحاق بالركب، فبدأنا نتوسَّع في استخدام تقنيات الغرافيك وتخليق الصور في الأفلام والمسلسلات، بعد أن كان استخدامها حكرا على مجال الإعلانات، نظرا إلى قِصَر زمن الإعلان وارتفاع الميزانية المخصصة لإنتاجه.
وقد شاهدنا المخرج مروان حامد يقدِّم تجربته الهامة في فيلم «الفيل الأزرق»، مُستعينا بفريق ألماني وآخر مصري متخصص في تقنيات الغرافيك والتحريك، وقد خرجَت التجربة على درجة من الاحترافية والإقناع تُحاكي ما نشاهده في الأفلام العالمية، واستطاعَت أن تنقل رواية أحمد مراد المحتشدة بالمشاهد الخيالية والانتقالات الزمنية إلى الوسيط البصري، عبر صورة شديدة الإقناع.
تزامنت مع هذه التجربة تجارب أخرى متفاوتة الإقناع، منها الفيلمان الكوميديان «الحرب العالمية التالتة» للمخرج أحمد الجندي، و«حملة فريزر» للمخرج سامح عبدالعزيز.
مع توالي التجارب في السينما والإعلان، أخذَت شركات الغرافيك المصرية تكتسب ثقة المنتجين والمخرجين، فتم الاعتماد بشكل كامل على الفرق المحلية في إنتاج مسلسل الخيال العلمي «النهاية»، الذي عُرض خلال شهر رمضان الماضي، من بطولة يوسف الشريف وإخراج ياسر سامي ومونتاج عمرو عاكف، ما يُشير إلى كونه باستطاعتنا أن نلحق بركب الصناعة ونُضاهيه، لو أننا امتلكنا الطموح والرغبة في تقديم الأفضل.
ثمة فارق هائل بين وسائل التعلُّم المتاحة اليوم، لو قارنّاها بنظيراتها في الأمس غير البعيد. كان منتجو السينما يحتاجون قديما إلى السفر والبقاء طويلا في الولايات المتحدة وأوروبا، من أجل دراسة السينما والتمرُّس على استخدام أدواتها المتطورة. أما اليوم، فالمجال مفتوح لتداول المعلومات وتبادل الخبرات والاستفسار عن أي شيء.
وصار التعلُّم الذاتي ممكنا أكثر من أي وقت مضى، وما عاد شباب اليوم يجلسون غارقين في حيرتهم بانتظار حدوث معجزة أو الحصول على فرصٍ للسفر هنا وهناك؛ بل صار الكثيرون منهم يبحثون عن شغفهم وأحلامهم عبر صفحات الإنترنت والمجلات المتخصصة المتاحة عليها، وعن طريق التواصل مع شركاء الشغف والهواية في مختلف أنحاء العالم، من أجل عرض نتاجهم وتعزيز خبراتهم واكتشاف فرص التطوير أينما توجد.
ولنا مثال في الشاب المصري أحمد يسري الذي يعمل في مجال الغرافيك، والحاصل على جائزتَي أوسكار في الخدع السينمائية والمؤثرات البصرية عن فيلمَي «هوجو» و«إنترستِلر»، الذي علَّم نفسه بنفسه فنون الغرافيك، عن طريق القراءة والاطلاع على المجلّات المتخصصة في هذا المجال، كما عمل لفترة في مجال الإعلانات، قبل أن ينتقل رأسا إلى الولايات المتحدة ليعمل في مجال السينما.
بالطبع، لا يُفهَم من هذا المثال قلة أهمية الأقسام المتخصصة في تعليم الغرافيك والتحريك وتخليق الصور في معاهد السينما، بل إن هذا الأمر أصبح ضرورة لا تحتمل التأجيل؛ كل ما تعنيه تجربة أحمد يسري أن أصحاب الشغف والإصرار لا يُمكن إيقافهم، مهما صعُبَت الظروف وتضاءلت الإمكانات.