سوليوود (وكالات)
يبدو العمل السينمائي الجديد للممثلة ناتالي بورتمان، وللمخرج أليكس غارلاند، مخرج فيلم “إكس ماكينا” أيضا، عملا ذكياً بقدر يضارع تقريباً الذكاء الذي يمكن أن تصل إليه عمليات إعداد أفلام الخيال العلمي في عالمنا اليوم، كما تقول الناقدة كارين جيمس.
في فيلم “إبادة” الذي أخرجه وكتب له السيناريو المخرج أليكس غارلاند، تظهر منطقةٌ غامضةٌ مرهوبة الجانب تحمل في الفيلم اسم “الوميض”، وتظهر كجدارٍ جميل ذي ألوانٍ كتلك التي تراها في قوس قزح، ويبدو أنه يتكون من مادةً هلاميةً غريبة المنشأ، تطوق منطقةً أخليت حديثاً مما فيها.
وهي منطقةٌ ذات طابعٍ شاعري ومشؤومٍ في الوقت نفسه، تماما كفيلم الخيال العلمي هذا ذي الطابع المثير الذي يتناول ما يحدث داخل تلافيف الأدمغة، وتقود أحداثه الممثلة ناتالي بورتمان وأربع عالمات أخريات، إلى داخل منطقة “الوميض” الغامضة لسبر أغوار ما تخفيه بداخلها من أسرار، وللتعرف على أسباب اختفاء كل البعثات التي دخلتها من قبل.
وبعد التركيز الكبير الذي أولاه غارلاند لتقنيات الذكاء الاصطناعي في فيلمه السابق “إكس ماكينا”، كتب الرجل وأخرج فيلمنا هذا كعمل أوسع نطاقاً. ورغم أنه لا يغاير كثيراً ما طرحه في عمله السابق، فقد قام غارلاند بذلك ببراعة تامة.
ويمثل فيلم “إبادة” عملاً فلسفياً عن الطبيعة والهوية البشرية، دون التورط – ولو بأقل قدر – في ترديد عبارات طنانة في هذا الشأن. كما يتناول الأسباب النفسية الكامنة وراء تبني البعض سلوكاً ينطوي على نزعة لتدمير الذات.
بجانب ذلك يلجأ صناع العمل إلى استخدام أسلوب تغيير اللقطة أو الحدث على نحوٍ مفاجئ، لبث الفزع في قلوب مشاهديه. فالوحوش المتحورة، بما فيها دبٌ وقاطور (تمساح أمريكي) أبيض اللون وهائل الحجم، تنقض على فريق العالمات من حيث لا يعلمن.
وعلى مدار العمل، يحرص غارلاند على أن تصبح شاشته عامرة بمشاهد يتزايد سحرها كلما اقترب الفريق من الوصول إلى بعض الإجابات على ما يدور في أذهان أعضائه من أسئلة.
ويتناول المخرج ببراعة حبكة الفيلم المأخوذ عن روايةٍ للكاتب جيف فاندرمير، حققت نجاحاً كبيراً. وفي البداية، نرى بورتمان وهي تخضع لاستجواب من جانب رجال يرتدون سُترات مُخصصة للوقاية من المواد الخطرة، وذلك بعد عودتها من منطقة “الوميض” بوصفها الناجية الوحيدة من بين أفراد الحملة التي ذهبت إلى هذه المنطقة.
ونعلم من خلال الفيلم، وهو عبارة عن مشهد طويل تُسرد فيه أحداثٌ سابقة بتقنية “فلاش باك” تفاصيل شخصية “لينا” التي تجسدها بورتمان، فهي عنصرٌ سابق في الجيش، تحولت إلى أستاذة في علم الأحياء بجامعة جونز هوبكينز.
وعبر هذه المشاهد، نرى زوجها “كين”، الذي يؤدي دوره أوسكار إيزاك، وقد عاد إلى المنزل مشلولاً تقريباً ومختلفاً بشكل كبيرٍ للغاية عما كان عليه، وذلك بعد عامٍ قضاه مختفياً إثر مشاركته في مهمة عسكرية سرية.
وتشكل النظرة الهامدة الخاوية من الحياة التي تظهر في عينيْ إيزاك، دليلاً على التأثير الذي يمكن أن يُخلّفه هذا الممثل أو ذاك في مشاهديه بنظرةٍ خاطفة من عينيه، وكذلك على مدى فاعلية ونجاح غارلاند في استخدام اللقطات المُقربة بشدة المعروفة باسم “كلوز آب”.
وتلعب العيون ونظراتها دوراً لا يُستهان به في هذا العمل، بدءاً من النظرات الغامضة أو الكاشفة التي تلتمع في أعين الشخصيات، وصولاً إلى اللقطات ذات الطابع التجريدي التي تجعلنا ونحن نشاهدها نشعر كما لو كنّا نُحدق في عين الشمس أو القمر.
بالعودة إلى الأحداث، نجد أنه عندما يتضح أن “كين” هو الناجي الوحيد من بعثته إلى تلك المنطقة الغامضة؛ تلتحق زوجته “لينا” بالفريق التالي الذاهب إلى هناك، والذي تقوده طبيبةٌ نفسية جافة العبارات تُدعى فنتريس (تجسد شخصيتها الممثلة جينفر جَيسون لي).
وتجسد الممثلة جينا رودريغيز شخصية المُسعفة “آنيا”؛ أكثر أفراد الفريق جذباً للاهتمام والانتباه بما تثيره حولها من صخب. وتعبر رودريغيز بنجاح عن ملامح هذه الشخصية كامرأة صعبة المراس سريعة الغضب.
أما الممثلة توفا نوفوتني فتقوم بدور “كاس” العالمة في الأنثروبولوجيا أو علم الإنسان، بينما تجسد تيسا طومسون شخصية “جوسي” عالمة الفيزياء، التي تتصرف على الدوام بشكلٍ مثالي، إلى حد أنك تتمنى أن تُفسح لها مساحةٌ أكبر في العمل، أو أن يقلل ما تعرض له دورها من حذفٍ واختصار في مرحلة المونتاج.
ولا يغفل صناع الفيلم التطرق إلى حقيقة كون كل أعضاء الفريق من الإناث، إذ يتم تناول هذه النقطة ببراعة، من خلال حديثٍ جانبيٍ تجريه “لينا” مع زميلاتها حينما تلتقي بهن، قائلةً في تساؤل: “الكل نساء؟” ليُرد عليها بعبارة موجزة، تقول: “الكل علماء”. لينتهي الأمر عند هذا الحد.
داخل المنطقة الغامضة
أما داخل منطقة “الوميض” الغامضة فيستل أفراد الفريق السلاح، بل ويعانين في بعض الأحيان من فقدانٍ جماعي للذاكرة . كما يعثرن على أدلة مروعة تتعلق بما مر به الفريق الذي سبقهن في دخول هذه المنطقة، وهو ما لا يؤدي سوى إلى جعل اللغز أكثر تعقيداً. وسرعان ما تكتشف “لينا” أن كل أشكال الحياة هناك – وليس فقط الحيوانات التي تُشكِلُ تهديداً للفريق – تتحور.
إذ نرى أزهاراً متعددة الألوان من أنواعٍ نباتية مختلفة وهي تتسلق جذع شجرة، بجانب وعلٍ أبيض اللون لديه قرونٌ من فروع أشجارٍ تنبت أزهاراً ذات لون قرنفلي.
أم أن النساء جميعاً كُنَّ يعانين بداخل تلك المنطقة من هلاوس جماعية مشتركة؟ أكثر من ذلك، فخلال اقتراب “لينا” من منارةٍ تعتقد أنها مصدر الوميض، تصادف شاطئاً تنمو فيه من قلب الرمال، أشجارٌ مؤلفة من شظايا زجاج أو جليد.
وينجح روب هاردي، الذي كان مسؤولاً عن الصورة السينمائية في “إكس ماكينا”، أن يكسو المَشاهد بالرشاقة والجمال، وأن يجعل كل لحظة رعب فيها مؤثرةً بعمق.
وكلما مضى الفريق قدماً في اكتشافاته، اكتشفنا نحن كمشاهدين المزيد بشأن مواطن الضعف الرئيسية في كل شخصية من شخصيات أفراده. فـ”كاس” يغمرها الحزن والأسى على طفلٍ ميت، بينما نعلم أن “آنيا” مدمنةٌ وإن باعتدال.
أما “لينا” فنكتشف عبر أحد مشاهد الـ “فلاش باك” أن علاقتها بزوجها لم تكن مثاليةً كما بدت في بادئ الأمر. وفي معرض وصفها لمهمة الفريق التي تبدو انتحارية، تقول فنتريس: “لا يوجد بيننا تقريباً من يُقْدِمُ على الانتحار”، في قولٍ يتسع نطاقه ليس لأعضاء الفريق وحدهن، وإنما يصبح بمثابة تقييمٍ شاملٍ للطبيعة البشرية.
ولكن عبارةً أخرى ربما تستلفت النظر بدورها في العمل، عندما يُقال: “كلنا تقريباً نُكِنُ مشاعر تدمير الذات”.
من جهة أخرى، نجد أن غارلاند يستوحي – على نحوٍ مرح – بعض ملامح الأفلام الكلاسيكية، على نحوٍ يجعل هذه الإشارات والتأثيرات المستوحاة تخصه هو، وليس غيره.
فثمة مشاهد تستحضر أفلاماً مثل “2001: ملحمة الفضاء”، و”لقاءات قريبة من النوع الثالث” و”فضائي”، وكذلك أي عددٍ تتصوره من الأعمال التي أخرجها تيرانس ماليك. ويضفي استخدام الموسيقى الإليكترونية في حدها الأدنى، من جانب بِن ساليسبري وجيف بارو (عضو فريق بورتسهيد الموسيقي البريطاني) نوعا من الغموض على الأحداث.
الفيلم ينتهي بنهاية مفتوحة صيغت بشكلٍ رائع، وهي عبارة عن خلاصة واستنتاج من النوع الذي يدير الرؤوس والأذهان. وتشير تلك النهاية إلى كم كان ما شاهدناه على الشاشة قد تشكل من خلال وجهات نظر شخصيات العمل، وكذلك كم كانت بورتمان شديدة الرهافة والرقة والحساسية في أدائها لدورها.
ومن شأن المشاهد الختامية للفيلم واللقطات ذات الطبيعة الشاعرية التي تضمنها جعله قابلاً للتفسيرات المجازية، لكن النهج الأخرق قليلاً الذي اتبعه غارلاند، يحد من نطاق الرؤية الرحبة المكثفة التي تبناها هذا الرجل.
ولعلنا نتذكر هنا التقارير التي تم تداولها على نطاقٍ واسع في الفترة التي شهدت التحضير للعرض الأول لـ”إبادة”، بشأن ممانعة غارلاند ومنتج الفيلم سكوت رودين في إدخال تغييراتٍ عليه بناء على ردود فعلٍ سلبية صدرت ممن حضروا عرضاً تجريبياً له.
وليس من العسير على أي حال التعرف على سبب هذه المشكلة. فـ “إبادة” تكتنفه حساسية تلك الأعمال التي تُنتج من قبل شركات إنتاج صغيرة ومستقلة، ويهيمن عليها مخرجها بشكلٍ مفرط، كما أنه أُنْتِجَ بميزانية متوسطة تصل إلى نحو 40 مليون دولار، فضلاً عن أن عرضه الأول جرى في عددٍ كبيرٍ من دور السينما في طول الولايات المتحدة وعرضها. (وقد باعت شركة بارامونت كل حقوق العرض على مستوى العالم إلى شركة نتفليكس).
ورغم أن كل ما سبق لا يشكل مزيجاً لعناصر متجانسة على الإطلاق، فإن فيلماً أُعِدَ بهذا الطموح والتشويق والروعة سيجد جمهوره بلا أدنى شك في ذلك.