مها بن عبد العظيم
عرض في مهرجان كان 2018 فيلم “كتاب الصورة” المترقب بشدة للمخرج الفرنسي السويسري جان لوك غودار، وكانت النتيجة عملا تجريبيا غامضا لكن يتضمن في طياته رسالة قوية بشأن العالم العربي.
قبل 50 عاما، وبالتحديد في مايو/أيار 1968 حين كانت الاحتجاجات الطلابية تجتاح فرنسا، جاء الشاب جان لوك غودار برفقة مجموعة من السينمائيين إلى مدينة كان لتعطيل فعاليات المهرجان الذي اعتبروا تنظيمه في تلك الظروف عبثيا. المخرج السويسري الفرنسي أسطورة السينما الغربية، كان وقتها ورغم صغر سنه صاحب روائع على غرار “بييرو الأحمق” و”حتى انقطاع النفس”، لكن مهرجان كان لم يستضفه في حين كانت المهرجانات الأوروبية الأخرى على غرار البندقية وبرلين تتنازع أفلامه.
ولم يأت غودار إلى الكروازيت منذ 2004، وحصل “أخيرا” عن فيلم “وداعا للغة” على جائزة لجنة التحكيم عام 2014 بالتساوي مع المخرج الكندي الشاب كزافييه دولان.
عمد غودار مع رفاقه إلى إلغاء مهرجان كان العام 1968، وصرخ في وجه المنظمين: “أحدثكم عن التضامن مع الطلاب والعمال وتتحدثون عن تنقل الكاميرا وتقريب الصورة! أنتم أغبياء!”. نصف قرن بعد ذلك، ها هو مشهد من “بييرو الأحمق” يتصدر واجهة قصر المهرجانات في كان، فهو الملصق الرسمي للنسخة الـ71، ويشارك غودار في المسابقة الرسمية بفيلم “كتاب الصورة”.
المندوب العام لمهرجان كان تيري فريمو قال: “أعلن غودار أنه سيأتي… وذلك لا يعني شيئا”… لم يأت غودار فعلا لكن المفاجأة الكبرى هذا العام أنه خاطب الصحافيين صباح السبت، وغداة العرض الأول لـ”كتاب الصورة”، عبر تطبيق فيس تايم! وصرح المخرج: “في التلفزيون كما على فيس بوك، لا نتعلم شيئا، لذلك أشاهد التلفزيون دون صوت”.
اليوم وفي حين تقصف سوريا واليمن وتحتل فلسطين، سنتحدث عن عدم تزامن الصورة والصوت في فيلم غودار الجديد، وعن الألوان المشبعة… ولسنا أغبياء، فبها يصنع المستقبل. قبل أربع سنوات، كان “وداعا للغة” تفكيرا واسعا حول الكلام. أما في “كتاب الصورة”، تجميع كثيف وتلصيق للصور والفيديوهات. فيلم عن غروب حضارتنا، يسعى فيه المخرج إلى أن عالمنا وصل إلى الأوضاع المأسوية التي نعيشها لأننا، والغرب بالذات، أهملنا العالم العربي.
“تلصيق، مونتاج، لوحة كبيرة، قصيدة”، هكذا يقدم فابريس أرانيو، منتج غودار، الفيلم. ويركز الشريط على العالم العربي، عبر إعادة صياغة مواد تنهل من تاريخ السينما وتاريخ الإنسانية على مدى القرنين الماضين. ولا يستخدم غودار صورا واقعية فقط بل يربطها بمشاهد مزاجية وبالكثير من النصوص مع خلفية صوتية (صوت المخرج الذي يناهز 87 عاما) مروعة شيئا ما. توجد فكرة الحضور والسير نحو المستقبل على أنقاض الماضي. الصور متقطعة ومركبة… فكما جاء في الفيلم “هل يمكن للعرب أن يتكلموا؟”. لمن تتاح كتابة التاريخ؟ من يصنع الصورة؟ انفجارات متكررة تتخلل هذا التحليل الخام، وبعض أعلام تنظيم “الدولة الإسلامية”.
يقول مؤرخ السينما برنار آيزنشيتس في رسالة لغودار بشأن “كتاب الصورة”: “ثم اللحظات الهادئة في “اليمن السعيد” حيث أجد شيئا من سعادة (المخرج السوفياتي بوريس) بارني: غروب شمس، زورق على البحر اللامع، أنحاء بسيطة من المغرب العربي تلعب لصالح كامل المنطقة التي نحتفظ بها تحت جفوننا”.
استقى غودار صورا من الأفلام والأخبار والرسوم واللوحات التشكيلية، في تكوين للفكر عبر كتابة التاريخ والحكايات في ماكينة السينماتوغراف بثغراتها وتفككها. تسعى الذاكرة إلى استعادة نسقها المتكسر عبر التقنيات الرقمية أيضا. كمية كبيرة من صور العالم العربي، من الأرشيف والمواد الوثائقية والروائية، ومن الأفلام المصرية القديمة بالأبيض والأسود وصولا إلى الأعوام الأخيرة مع لقطات من عمل المخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو ثم أحدث الأفلام للجيل الجديد من المخرجين فتظهر مشاهد من أفلام المغربي فوزي بن سعيد والتونسية ليلى بوزيد. وتصلنا دون الصورة هتافات “ديغاج” (إرحل) للمتظاهرين التونسيين خلال الثورة… ثم غناء أم كلثوم والهادي الجويني.
ويقول برنار آيزنشيتس في رسالته لغودار: “كنت دائما في القصة، متأكدا من أن السينما يجب أن يخدمها. وكان ذلك انطلاقا من التاريخ، قبل حب السينما الذي يحكي قصصه الصغيرة. هذه المرة، القصة هي المادة نفسها”.
وكان غودار قد صور في فيلمه “موسيقانا” (2004) الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ليروي جمالية ثقافة ورثت النص المهزوم، نص “شاعر طروادة”. العديد من المراجع العربية وخصوصا المحلية منها أفلتت من المشاهد الغربي، فغادر العشرات قاعة العرض مرددين “ماذا يجب أن نفهم؟” أو “غودار يصنع نفس الفيلم منذ عشر سنوات”. شكلا، الطريقة نفسها، لكن المحتوى هذه المرة فريد. كان المخرج قد لقب قبل عقود بسبب نضاله مع الماوية وضد الإمبريالية بـ “أغبى سويسري موال للصين”، فهل يلقب اليوم بـ “أغبى سويسري موال للعرب؟”.
لا، غودار وبعد نصف قرن على “ثورة” 1968، يعود بفيلم ثوري يذهب حيث لا أحد يعرف، إنه فيلم-مضاد بقيمة وصية. فيحيل أنظارنا على ما يجب أن نعود إليه حتى لا نفقد روحنا ويقول “الشرق، أكثر من الغرب، فلسفة”، فلسفة التأمل واندفاعة “الربيع”.. لذلك تونس مهد الثورات الربيعية حاضرة بقوة وبكل ما ساهم في الخلفية ربما في انتفاضة شعبها: موسيقى أنور براهم، رقصة الصوفيين (العيساوية)، صور الناصر خمير، شوارع المدنية القديمة والمدينة الساحلية (لا سيما بنزرت آخر مدينة غادرها المستعمر الفرنسي)، شواطئ المرسى. سينما هي تلك الثورة التي أتاحت الكلام للعرب لتصالحنا مع ثقافتنا فتدفعنا للعمل من أجل الحد من سيل المأساة التي تجرف العالم ككل. ويشار، رغم نفور العديد، إلى أن القاعة وقفت إثر العرض الأول لتصفق طويلا باتجاه فريق الإنتاج.
في هذه النسخة من مهرجان كان تشارك السينما العربية بشكل غير مسبوق عبر فيلمين في المسابقة الرسمية وأفلام أخرى في أقسام فرعية، فهل تكرم الجوائز الختامية أفلاما عربية أم أفلاما عن العرب؟
المصدر: فرانس 24