فضيلة الفاروق
غضب وينستون تشرشل من الرسام غراهام ساذرلاند حين كشف عن البورتريه الذي رسمه له العام 1954 تلبية لرغبة البرلمانيين البريطانيين بمناسبة عيد مولده الثمانين، قُدِّم له في حفل عامّ أقيم في قاعة وستمنستر في الثلاثين من نوفمبر.
هالته كمية البشاعة التي وضعها الرّسام في اللوحة، فاستدعاه وقام بتوبيخه، وقال له: هذا ليس أنا! واصفاً اللوحة بالقذرة والقبيحة، فيما ردّ ساذرلاند بهدوء وحكمة، ليس دفاعاً عن عمله -وهو الذي كان من أهمِّ أساتذة الفن التشكيلي في بريطانيا- بل ليخبره بحقيقة ظلّ تشرشل يرفضها: “هذا ليس أنت، إنها الشيخوخة”، وقعت هذه العبارة على رأسه وقعاً قاسياً، جعله يتخذ قراره بالتخلي عن منصبه لشخص أكثر قدرة للقيام بمهامه.
لا شيء أقنع الرّجل العجوز أن إدارة شؤون دولة بعظمة بريطانيا ليس بحاجة لحكمته وحنكته السياسية فقط بل بحاجة لرجل أكثر شباباً وصحة، لا تخذله صحته في الظروف والمواقف الصعبة.
ويبدو لي في قراءتي الخاصّة للأحداث التي وردت في مسلسل The crown أنّ اختيار هذه الهدية كان مدروساً، بعد أن فشل الجميع في إقناعه للتقاعد وعلى رأسهم الملكة إليزابيث نفسها، فقد عُرِف عن تشرشل أنّه هاوٍ للأدب والفن التشكيلي، وغالباً ما كان يقرأ ما تخفيه اللوحات من خلفيات سيكولوجية، وقد استُغِلت هذه النقطة بالذات فيه لإيصال فكرة أنه لم يعد صالحاً للاستمرار في وظيفته.
وحتى وإن لم يكن هناك أي غاية شريرة خلف اختيار هذه الهدية، فقد كان وقعها قاتلاً على تشرشل، ما جعل زوجته تخفيها في قبو منزلهما في تشارتويل، وفي أقلّ من سنة كلّفت من يحرقها، مع رسومات أخرى، أنجزها رسامون آخرون كتمهيديات لبورتريهات لم تتم.
اختلفت آراء البرلمانيين الذين دفعوا ثمن اللوحة من تبرعاتهم الخاصة، حول اللوحة نفسها، وحول فعل تدميرها فيما بعد، لكن الأكيد أن رسالة واحدة وصلت الجميع، وهي أن “الفن والسياسة” يلتقيان في أمور كثيرة، لكن بالحفاظ على مسافة أمان بينهما.
يتوقف المخرج ستيفن دالدري عند هذه المحطّة ليُظهر قوة الفن في التغيير، ويقدّم قراءته لحقبة تاريخية مهمة من تاريخ بريطانيا العظمى، ولا ينسى أن يدعم كل مشهد برؤية شاملة وغير منحازة للشخصيات الملكية، منتصراً لفنّه.
مشهد لوحة وينستون تشرشل في مسلسل التاج، فتح شهية رواد التواصل الاجتماعي، مروّجين له باقتباسات خاطئة عن معاداته للفنون، رابطين بين كرهه للوحة ساذرلاند، وبين التصادمات الأزلية بين رجال السياسة والمبدعين، لكن المؤرّخ ريتشارد لانغورث عضو مشروع تشرشل في جامعة هيلزديل الأميركية قال: إنه أعلن سنة 1938 في الأكاديمية الملكية أن “الفنون ضرورية للحياة الوطنية الكاملة”، وقد عزّز كل الفنون خاصة الرسم والنحت واعتبرهما ثروة وقوة وطنية، لكنه لم يتوقع قوة الفن أبداً حتى تنحّى عن منصبه.
جريدة الرياض