سوليوود «الرياض»
طبيب من أرياف كوروساوا
أكثر من سواه من مخرجي السينما اليابانية، تعامل أكيرا كوروساوا مع الثقافة الأوروبية منفتحاً على آدابها وثقافتها. ليس أن «لحية حمراء» هو اقتباس عن رواية غربية، وليس أنها مغتربة عن تربة وطن المخرج، لكن ترددات الفيلم المصاحبة لها جذور ضاربة في بعض تشارلز ديكنز وبعض ليو دستويفسكي وموسيقاه توحي ببيتهوفن.
في الوقت نفسه، لا «لحية حمراء» ولا حتى «ران» (المقتبس عن «الملك لير» لويليام شكسبير)، فيلمان غربيان ولا أي فيلم آخر له. أفلام كوروساوا لم تتغرب بل تعاملت مع المؤثرات الواردة وطوّعتها من دون أن تخون الثقافة والهوية الوطنيتان التي انتمت فعلياً إليهما.
ووفقا لصحيفة الشرق الأوسط بعد أن شهدت مهرجانات الخمسينات (خصوصاً فينيسيا) أفلام هذا المخرج الأولى، عبر «الشرير ينام جيداً» و«يوجيمبو» و«عال ومنخفض» أقدم على تحقيق هذا الفيلم المأخوذ عن قصّة قصيرة لشوغورو ياماموتو. أضاف إلى القصّة ما يكفي إنجاز فيلم من ثلاث ساعات حول ذلك الطبيب الشاب الذي يصل إلى مستشفى (تقع الأحداث في نهاية القرن التاسع عشر) ليفاجأ بأنه ليس المكان الذي كان يمني نفسه بمزاولة عمله فيه.
تطلعات ياسوموتو (يوزو كاياما) كانت منفعية. أراد الانخراط في مستشفى يُعالج أبناء الطبقة الاجتماعية العليا المقرّبة من الحكومة ليؤمّن مستقبلاً يرضيه. ما وجد بانتظاره مستشفى للمعوزين والفقراء يديره طبيب اشتهر بالاعتداد بنفسه وبدوره هو دكتور كيوجو (توشيرو مفيوني) الذي يُلقب بـ«ذي اللحية الحمراء» لأنها كذلك.
مفيوني يجد تسليته في العبث بلحيته حين يفكّر، لكن الطبيب الشاب يحاول التمرد على قرار نقله والتمسك برفضه ارتداء زي الأطباء أسوة بزملائه. يصبر د. كيوجو عليه ويترك له الحبل لكي يلعب به قليلاً وهذا القليل كان كافياً لتحوّل الطبيب الشاب من الرفض للقبول وذلك كلّما تمعّن في مصاب المرضى واستمع لاعترافاتهم.
يُعالج كوروساوا الفيلم كمنبع لحكايات غائبة عن التداول. أبطالها أناس من قاع المدينة فقدوا الاتجاه بعدما طاشت سهام الحب في حياتهم أو بسبب أخطاء وخطايا مورست عليهم مما جعلهم يستسلمون لتقاليد وشروط حياة ليس من السهل الخلاص منها.
هذه الحكايات والاعترافات تنقلنا، كما لو كانت قصصاً مروية على طريقة «ألف ليلة وليلة» من حيث تعددها واختلافها وفي الوقت ذاته سياقها الواحد أسلوباً وسرداً. لكنها في الفيلم كفيلة بانتزاع ممانعة الطبيب الشاب للعب دوره المنتظر وتخليه عن الرفض والتمرد والذهاب لما بعد القبول بالدور الذي وجد نفسه فيه.
مع كل حكاية يسمعها وكل موقف يشهده يرتفع إدراكه الاجتماعي حتى إذا لاحت نهاية الفيلم وجدناه يرفض مغادرة المستشفى لآخر يحقق له مراميه السابقة راضياً بدوره الجديد. ولا يمكن إغفال الظل الكبير للدكتور الملقب باللحية الحمراء. صارم بلا قسوة وليّن بلا ضعف. وهناك مشهد يرضي المعجبين بأدوار مفيوني الساموراي السابقة (خصوصاً في «الساموراي السبعة»، فهذا الطبيب يعرف كيف يداوي من ناحية ويعرف كيف يدافع عن نفسه ويكسر الأيدي والأقدام وبعض الأقفاص الصدرية إذا ما ووجه بعصبة تريد إيذاءه. وحين ينتهي ينبس بين شفتيه الساخرتين: «ربما انفعلت أكثر قليلاً مما يجب».
تمر ساعات الفيلم كما لو كانت درساً لا في الحياة فقط، بل في السينما.
كوروساوا ابن التربة الواقعية وخير من ينقلها من رحى العمل المحدود التي اعتادت عليه إلى رحاب السينما. وكل مشهد يحققه هو تآلف بديع بين المكان والزمان والحركة داخل الفيلم مع الحركة المدروسة للكاميرا. لا اغتراب في الهوية لا الثقافية ولا الفنية بل صرح من اللقطات كل منها يؤازر بعضه البعض.