سوليوود «خاص»
ما تفعله السينما ليس مجرد خيال يتلاعب بعقلك ويتذاكى على قدارتك الذهنية، لكنها حبكة تتكئ على أغوار قلبك وصميم إنسانيتك، حيث يتحول وجودك إلى معركة بقاء لا تقبل الهزيمة ولا اليأس ولا النكران.
هنا في الرياض لا تزال أجواء الخريف تلتبس بصيف لا يخيب خفقات العدادات الكهربائية، ويلجأ الناس إلى عوالم التسلية لتحويل الليل لمنتجعات تعود عليهم بالترفيه، ويشكل وصول السينما أحدث ألوان الرفاه شيوعًا كأماكن وقاعات ومواعيد لا تعرف منتهى للمتعة.
وفي ممشى «يووولك» الممتد على طريق تركي الأول، تأخذك المدارج نحو مصافحة «بيتهوفن» على إيقاع نافورته، وتخطو على غزل موسيقى المطاعم لأحاديث مرتاديها، وتشكل سينما «موڤي سينما» حجر الزاوية التي تعد الراكضين بأفلام تنبض بالحياة.
ولأن الرياض تعدك بالمزيد، فقد كنا على موعد مع وصول «Tenet» للمخرج كريستوفر نولان، إلى قاعات «موڤي سينما» بالتزامن عالميًا، وحينها لا يمكن تفويت فرصة تقطع الليل وتحيله لكرنفال بهجة.
الحبكة والخيال
تجهد المخيلة بحثًا عن تبرير للشر في العالم، وإذا أعيتنا الحيل والسيناريوهات المكررة على مواجهته واكتساحه واقعيًا، فلا بدَّ من إيجاد عوالم موازية تمكننا من الحيلولة دون تأثيره الذي يغتال وجودنا ويختزل معاني الحياة في بواعثه السوداوية.
لم يكن لكريستوفر نولان ليدير آلته الزمنية إلا على وتر إنساني يراوغ قدرات الشر في عالم يغتال نفسه بنفسه. وحتى لا تكون القوة هي المبتغى كما تريد قوى الشر، لا بدَّ من حضور جنود أخفياء لا تلهيهم حتى المقاومة عن المجازفة بحياتهم من أجل الضعفاء المبتزين.
وتتكامل قدرة «نولان» في توظيف الصورة والسيناريو وحتى الخيال لتجذير معنى الوجود. فالإبقاء على الجذر الإنساني وقطع علاقة الأم بابنها، يعادل قطع الحياة عن أمنا الأرض وإزالتها إلى العدم.
نبرة الأرض
لا أدري إذا كانت قراءتي متعسفة للأمر، أم عليّ اللجوء لأوجه الحقيقة المتعددة. ففيلم «Tenet» الذي يتكئ على عقيدة تأبى الزوال ومهمة تنوء بحمل إنقاذ العالم، يستند إلى بطولة مزدوجة وقضايا عالم ثالثية تطل من وراء الحبكة النولانية دون تهميش للدور العلمي الفيزيائي.
ففي عالم يضطرم بأهمية حياة السود يتقاسم البطولة النجم جون ديفيد واشنطن مع روبرت باتينسون، فلا بطولة مطلقة للأبيض الذي طالما كان المنقذ السينمائي الأوحد، وأصبح جمهور اليوم يملّ التنميط العرقي أو الطبقي أو حتى الأيديولوجي.
ويلفت كذلك حضور الهند التجاري بعيدًا عن النظرة الرومانسية للمنطقة إلى تصاعدها كقوة تناكف الدول الكبرى في تقاسم حصص القوة.
ويمكن قراءة حضور الرياض في السيناريو كذلك بتمركز القوة السياسية السعودية وعلاقتها بأمريكا التي تفسر حضور «واشنطن» البطل والسفارة ضمن سياق القصة.
القدرة على التفسير
لا تقف قدرة الصورة على المعالجة البصرية لأحداث الفيلم، لكن عليها أن تلبي فوق ذلك قوانين الفيزياء المعهودة التي قد تتحكم في فهمنا لحركات الانتقال بين الزمن الحالي والماضي والمستقبلي.
وإذا كنت قد تابعت الفيلم أول مرة، فلا بدَّ من إعادة للإمساك بخيوط الحبكة وتعقيداتها، كما حدث لي من قبل مع فيلمه «Inception» في 2010 مع اختلاف في التوقيت وتعقيد الحبكة.
التعامل مع «نولان» في أفلامه يجعلك تطارد اللحظة وتقف عند أدق التفاصيل، فيمكن أن تكون البدلة وحتى النكتة العابرة، جزءًا من نكهة النص ونبرة الإخراج، بينما يتحول الزمن إلى دلالة للتجاوز كما تتكرر ثيمة «ما حدث قد حدث» في «Tenet».
رهان الإبداع الذي يضع «نولان» نفسه فيه لا يتوقف على الإخراج، بل حتى التأليف، فذلك الخمسيني الذي يحمل في رصيده 26 ترشيحًا لجوائز أوسكار، وسبع جوائز، يمضي بثقة نحو إدهاشك كل مرة ومضاعفة المتعة التي تتجدد مع مشاهدة فيلمه مرات، حاملاً معه سحر السينما وسطوة الإبداع التي تذهلك.