سوليوود «الرياض»
يقول الشاعر والكاتب الفرنسي الكبير “فيكتور هوجو“: “تفصح الموسيقى عن تلك الأشياء التي لا نستطيع الحديث عنها، ولا نقدر السكوت عليها”.
وأعتقد أن من هذا المنطلق استعمل كلا المخرجين “رومان بولانسكي” و”جوسيبي تورناتوري” الموسيقى في فيلمهما، كلغة للتعبير عما لم يستطع لسان كل منهما قوله. حيث قدم كل منهما على حدة فيلمًا يواجه به الحرب العالمية الثانية مستخدمًا الموسيقى.
ولكن الجدير بالذكر هنا وفقا لأراجيك ليس أن كلا الفيلمين يشتركان في عرض نفس الحقبة الزمنية، بل وفي استخدام نفس الآلة الموسيقية أيضًا، حيث استخدم كل منهما في فيلمه “البيانو“ ليس كآلة فقط، بل وكلسان ليتحدث به عن وجهات نظره، ورأيه، وليعبر به عن مشاعره تجاه تلك الفترة الزمنية القاسية التي قد مر بها العالم. فكل منهما استعمل البيانو بطريقته الخاصة ليواجه به الحرب، كل منهما رأى في الموسيقى التي يصدرها ملاذًا خاصًا يستطيع من خلاله أن يقول ما يريد… فكيف كانت طريقة كل منهما؟
فيلم “The Legend of 1900” 1998 للمخرج الإيطالي “Giuseppe Tornatore”
“الأرض سفينة كبيرة بالنسبة لي… إنها موسيقى لا أعرف كيف أصنعها!”
تدور قصة الفيلم عن الطفل “1900” الذي وجده الوقّاد “داني بودمان” يوم رأس سنة 1900 على متن سفينة “فيرجينيان” التي يعمل عليها، ولأنه لم يكن يعرف اسمه أو أي شيء عنه، فقرر إعطاءه اسمه “داني بودمان”، وأضاف عليه أسماء كثيرة ومنها السنة التي جاء إلى العالم فيها -والتي أصبحت هي اسمه المختصر- وأعلن لكل طاقم السفينة أن سيصبح ابنه بالتبني، وأصبح “1900” ابنًا لكل طاقم السفينة، وفي صغره يقع الطفل في حب الموسيقى، ويتعرف على البيانو الموجود في الغرفة الملكية لها، والذي يعزف عليه بتلقائية دون أن يكون على علم بتعاليم العزف، فيرى كل الركاب من جميع بقاع الأرض تلك المعجزة، ليكبر “1900”، وقام بدوره في مرحلة الشباب وإلى النهاية النجم “تيم روث”، ويذاع اسمه بسببها ويعرف بعازف المحيطات، وتلك الشهرة تجعل أحد عازفي الترومبيت “ماكس توني” والذي قام بدوره الممثل “برويت تايلور فينيس” الذهاب للعمل على طاقم الأوركسترا في السفينة “فيرجينيان” ليتعرف عليه، ثم تبدأ رحلة تعرفنا على “1900” بشكل أكبر من تلك المرحلة.
استخدم “تورناتوري” في سيناريو فيلمه “ماكس” كأداة للحكي عن طريق الفلاش باك قصة العازف “1900” لكل من تعامل معهم خلال أحداث الفيلم، وذلك يجعلنا نتعرف على البطل خطوة بخطوة، مع كل حدث عاشه “ماكس” نفسه بعد مغادرة السفينة أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهذا ينقلنا إلى محور القصة نفسها وهي كيف استخدم “تورناتوري” بطله ليواجه به أحداث الحرب. كما أبرز في سيناريو فيلمه وفي صورته رمزيات عديدة، بل ويعتبر -في نظري- الفيلم كله يرمز للمواجهة والحرية والتحالف، وكل شيء يهدم الحرب كفكرة وكحدث في الوقت نفسه، فجعل بطله يعزف البيانو لكل طبقات الشعب، وكل الفئات والجنسيات، بل وأعطاه فطرة استطاع بها أن يميز كل فئة عن الأخرى عن طريق لغة الحديث، والأهم أنه لم يجعله يغادر السفينة على مدار القصة كلها، حيث أشار إلى الأرض بسفينته التي بها السلام، والتي تجمع الكل ولا تفرق بينهم، وتبث فيهم أمل الوصول “للحرية” مع كل رحلة، والأكثر أهمية هي اللغة التي تجمع كل ذلك ألا وهي موسيقى بطله “1900” التي يسمعها الكل، ويفهمها ويقع في عالمها.
بالإضافة إلى ذلك وجود “ماكس” راوي القصة، ذلك الرجل الذي في نفس عمر “1900” -تقريبًا- والقادم من الأرض المليئة بالدمار إثر الحرب، هاربًا منها ليتعرف على “1900”، ويعزف معه الموسيقى ليكون حرًا مثله، ثم يرينا “تورناتوري” بلغته السينمائية، والحوارية المميزة الفرق بينهما، وبين آراء كل منهما، ليجعل بطله الحر الذي لا يقيده شيء يؤثر في نفس صديقه، ويجعله يحب وطنه الخاص “السفينة”، وكأن “1900” أو الموسيقى بمعنى أوضح هي الشيء المخلص، والمحرر من كل القيود، وكأن “تورناتوري” من خلال أسلوبه يريد إثبات مقولة “بيتهوفن“: “الموسيقى أكثر إلهامًا من جميع الحِكم والفلسفة”.
ومن تلك النقطة بدأ “تورناتوري” إظهار صراعه ووجهة نظره عن الحرب عن طريق “1900” و”ماكس”، عن طريق عزف كل منهما على آلته، فهو قد أظهر الرأي وضده، وكل شيء وعكسه من خلالهما، وما قد جمع كل تلك الأفكار والصراعات هما: الموسيقى التي يفهمها البشر كلهم، والبحر أو المحيط الذي مهما يحدث من أي حرب فلن يطوله خرابها، وكأنه في النهاية يريد التأكيد على ما قاله “1900” في الفيلم: “إن الأمر ليس فيما رأيته، بل فيما لم أره قط!”.
فالأمر ليس فيما فعلته الحرب بشكل ملموس، بل فيما فعلته ولم نره! وذلك هو ما كان يحاربه “تورناتوري” مستخدمًا موسيقى البيانو قدر ما استطاع، ليتركنا بعد ذلك محلقًا في سماء عالمه الخالي من الحروب والنزاعات، والمليء بالموسيقى والحب، الذي يجمع كل الركاب “البشر” الباحثين مثله عن الأمل، والحرية، والسلام… ذلك العالم الذي -رغم كل شيء- انتهى بعد انتهاء الحرب، وبعد أن أدخل في نفوس كل من هم -عائدين للأرض التي غزتها الحرب- مثل “ماكس توني” حب الموسيقى “التحرر”، والحياة ليصنعوا هم الفارق فيما بعد، ويواجهوا الحرب كما واجهها بطله الأسطوري “1900” بموسيقاه، الذي قد أوصل بها رسالته للعالم -الذي لم يره- بكل وضوح ألا وهي: “اللعنة على الحرب”.
فيلم The Pianist 2002 للمخرج البولندي “Roman Polanski”
“حب الحرية الفطري داخل كل إنسان، وكل أمة لا يمكن قمعه على المدى الطويل”.
في عام 2002 أصدر “رومان بولانسكي” تحفته الفنية “The Pianist”، ذلك الفيلم الذي قد أحدث ضجة عالية في السينما والمهرجانات حينها، وترشح لأكثر من سبعين جائزة، كما فاز بثلاثة وخمسين منهم، وكان على رأسهم جائزة الأوسكار لأفضل ممثل دور رئيسي “أدريان برودي”، وأفضل مخرج -بالطبع- وأفضل سيناريو مقتبس، وذلك ليس لأن الفيلم يعتبر أيقونة فنية من نواحي كثيرة، ولكن لأنه عرض قضيته بصورة أقرب إلى الحقيقة، بل وكأنها الحقيقة ذاتها.
فيلم “The Pianist” مأخوذ عن رواية بنفس الاسم لكاتبها، وصاحب قصتها الأصلي عازف البيانو البولندي من جذور يهودية “فلاديسلاف سبيلمان”، فتلك الرواية تحكي قصة حياته -مثل الفيلم- وكيف عاصر اضطهاد الحكم النازي أثناء الحرب العالمية الثانية بشكل عام، كما تعتبر الرواية هي الكتاب الوحيد الذي كتبه طوال 88 عامًا من حياته إلى أن مات في عام 2000. ولكن الجدير بالذكر هو أن قصة “فلاديسلاف” تشبه كثيرًا لقصة “رومان بولانسكي” نفسه ذلك الطفل القادم من فرنسا إلى بولندا مع أسرته قبل قيام الحرب بثلاث سنوات، والذي قد نجى فيها من اضطهاد النازيين وفقد والديه في سن السابعة، وتربى في المعسكرات بين هنا وهناك، إلى أن انتهت الحرب وتركت داخله آثارًا دفينة ظهرت في أسلوبه السينمائي بشكل عام، وتبلورت أكثر في فيلمه “The Pianist”.
لذلك فـ -أنا أعتبر- الفيلم ليس فقط يحكي قصة حياة “فلاديسلاف” أو “فالديك” -كما كان يُسمى- بل ويعرض أيضًا قصة حياة مخرجه بشكل غير مباشر، الذي لربما كان أحد هؤلاء الصبية الذين شُهِدوا في الفوضى العارمة التي قد عرضها الفيلم، بل ولربما قد استعان “بولانسكي” في تجربته البصرية فائقة الجمال، بالصبي الذي في داخله، والذي قد عاصر نفس الأحداث التي عاصرها “فالديك” نفسه.
فما يفرق ذلك الفيلم عما سبق ذِكره هو أنه قد عرض آثار الحرب، أدخلنا فيها وأرانا ما فعلته من خراب ودمار واضطهاد واضح، وبين ما فعلته في نفوس أبطاله كلهم، أما فيلم “تورناتوري” فقد عرض الحرب كفكرة وحدث عاصره الجميع إلا بطله الذي قد عاصره من خلال ما يُروى له، لذلك كانت طريقته في استعمال الموسيقى “البيانو” لمحاربه تلك “الفكرة” طريقة نلمسها ونشعر بها فقط ولكن لا نراها.
أما في فيلم “بولانسكي” فكانت المباشرة الصريحة للحرب، هي الطريقة التي قد تم تناول فكرة المواجهة بها، ليس فقط لأن ذلك هو الواقع الذي عاشه، ولكن لأن تلك الطريقة أيضًا هي التي تبرز قوة المواجهة، كما تبرز مشاعر وآراء عارضها بشكل واضح. فـ “بولانسكي” في فيلمه متأثرًا بروح كاتب القصة الحقيقي، وبذكريات صباه عرض المعاناة مثلما عرض الصمود والتحدي أمامها، عرض ما فعلته الحرب من دمار وانتهاك للحريات، مثلما عرض كيف صمدت الموسيقى “رمز السلام” أمام كل شيء، كيف كان حب “فالديك” للبيانو وللموسيقى بوجه عام هو ما جعله قادرًا على العيش، تلك الموسيقى التي تحمل الروح الخالية من أي ضغينة أو كره، والمليئة بالتحرر والقوة، والتي إن لم تكن موجود داخلنا لما كان لحياتنا أي معنى، وإن لم تكن قادرة على أن ترسلنا -مثلما أرسلت “فالديك”- إلى بر الأمان لما كنا أحرارًا إلى يومنا هذا.
فـ “بولانسكي” بالنسبة له البيانو “الموسيقى” ليست فقط الوسيلة من أجل التحرر، أو اللغة التي يستطيع أن يقول بها ما يريده لأن كل العالم يفهمها على حد السواء، بل هي الأداة التي قد أستخدمها للقضاء على الفوضى، والمعاناة وكل شيء فعلته الحرب به وبغيره، هي الأمل الذي استطاع أن ينجح رغم كل شيء، في صراعه أمام كل ما زرعته الحرب من يأس داخل معاصريها. ففيلم “بولانسكي” أثبت أن مهما مر من الوقت ستنتهي الحرب حتمًا، أما الموسيقى ستظل باقية بكل ما تحمله، وستظل شامخة في مواجهتها لأي حرب كانت، كما ستأتي إلينا بمحبين كثيرين لها تبث فيهم الحرية والصمود، والتطلع لكل ما هو قادم، قادرين على إظهار آرائهم تجاه أي شيء، ومواجهة كل ما ينشر الفوضى والخراب ويقيد الحريات، وسنرى من خلالها نسخ كثيرة وليست مكررة يحبون الفن لذاته، ولكي يحبون من خلاله الحياة، يواجهون المشاكل ويعرضوها مستخدمين أنواعه السبع وعلى رأسهم الموسيقى، كما فعل “تورناتوري”، و”بولانسكي” وغيرهم.
في النهاية ستظل الحروب هي الحقيقة المؤلمة التي قد عاشها العالم، وأظهرها كل فنان سينمائيًا كان أو غير ذلك بطريقته الخاصة، كما ستظل الموسيقى هي الحقيقة التي تثبت زوال الحرب مهما تفشت وانتصار السلام في النهاية، ستظل دائمًا وسيلة ثابتة للمواجهة مع اختلاف الأدوات، كما ستظل “الموسيقى هي من تعطيك المجال لتهرب من الحياة من ناحية، وأن تفهم الحياة بشكل أعمق من ناحية أخرى” كما قال عنها المفكر والناقد الفلسطيني الراحل “إدوارد سعيد”.