هوفيك حبشيان
أُلغي العديد من المهرجانات السينمائية مع تفشّي وباء كورونا (كوفيد-١٩)، والزجّ بالعالم في الخوف والبارانويا واقفال صالات السينما وحظر التجمّعات وظهور سيناريوات “نهاية العالم” البهلوانية. بعضها الآخر اختار التريث والتأجيل. نوع ثالث واصل نشاطه افتراضياً، على شبكة الانترنت، لتلبية حاجاته ولملمة أوضاعه والخروج من المأزق بأقل خسائر ممكنة.
كنتُ وصلتُ إلى تسالونيك منذ ٢٤ ساعة، في مطلع آذار الماضي، آتياً من برلين، عندما تلقيتُ خبر تأجيل التظاهرة المخصصة للفيلم الوثائقي. مباشرةً بعد البرليناله الذي نفد بريشه ببراعة يُحسَد عليها، كرّت سبحة المهرجانات التي أصدرت بيانات، تراوحت قراراتها بين الحجب الكليّ واعادة جدولة توقيت آخر، على أمل ان ينتهي الكابوس الفيروسي في أقرب وقت.
يومها، في مطلع آذار، لا أحد كان يتوقّع ان تتطور الأمور بهذا الشكل الدراماتيكي. مازحني زميلٌ لي، وأنا أستعد لمغادرة برلين، قائلاً اننا قد لا نلتقي في مهرجان البندقية هذا العام (كان انتشر للتو خبر الغاء آخر يومين من كرنفال البندقية)، فسخرتُ منه وأكملتُ وجهتي. اليوم، نسبة ان يُعقد مهرجان البندقية في موعده (٢-١٢ أيلول) لا تتجاوز الخمسين في المئة – هذا اذا تمسّكنا بالتفاؤل – خصوصاً بعدما كانت إيطاليا طوال الأسابيع الماضية، من أكثر البلدان الموبوءة
عبثاً، يحاول الجميع إيجاد مخرج للأزمة التي تعصف بسائر القطاعات. خسائر كبيرة تتكبّدها المهرجانات التي اعتمدت خيار الالغاء. هي خسائر معنوية ومادية وفنية. من بين كلّ الخسائر، تبقى الكبرى هي خسائر كانّ، كونها لا تطال المهرجان نفسه فحسب، بل المنتفعين منه والمرتبطين به بشكل أو بآخر، نظراً لضخامة الحدث وأهمية الحضور فيه. غنيّ عن التذكير بأن حجب كانّ يعطل أيضاً أعمال الكثير من المهرجانات الأخرى التي تستزيد منه
كانّ الذي يُفترض ان يُقام من ١٢ إلى ٢٣ أيار المقبل، أبلغ مثل للمؤسسة الثقافية التي تحاول فعل شيء ما لإنقاذ ما يُمكن انقاذه وانتشال الحياة الثقافية من تحت الركام الذي صنعه الوباء. تذكير: سبق أن أُلغي كانّ مرتين؛ في الدورة الافتتاحية عام ١٩٣٩، بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية ودخول الجيش الألماني إلى بولونيا، وفي دورة عام ١٩٦٨ بسبب ثورة أيار
بعد فترة تلكؤ انحاز فيها المهرجان إلى انكار خطورة الوضع، قررت الادارة تأجيل الدورة الـ٧٣ إلى نهاية حزيران وبداية تموز. لكن، لم تعد هذه الفرضية قائمة بعد القرار الصادر عن رئاسة الجمهورية الفرنسية مطلع الأسبوع الحالي، القاضي بتمديد فترة حظر المهرجانات حتى منتصف تموز. الثلثاء الماضي، أعلن كانّ، في بيان ضبابي بعض الشيء يحفظ خط الرجعة، انه بات صعباً ان يُقام المهرجان هذا العام بشكله الأصلي. تبعه في اليوم التالي، خبر إلغاء نهائي لكلّ الأقسام الموازية، من “أسبوع النقّاد”و”أسبوعا المخرجين”، فـ”أسيد”. أما “سوق الفيلم”، فتم التأكيد انه سيُقام افتراضياً في أواخر حزيران
بحسب البيان نفسه، تمت استشارة عدد من المهنيين في فرنسا والخارج، لدراسة الحلول البديلة المتوافرة لمرافقة العام السينمائي بطريقة أو بأخرى. المهرجان الذي هو أداة دعم أساسية للصناعة السينمائية، يحاول في الأقل ان يوفّر للأفلام فرصة الانوجاد في حال غيابه، عبر اسناد صفة “كانّ ٢٠٢٠” إليها، وإن لم تُعرض في كنفه. هذه العلامة قد تساعد الأعمال التي أحبّها المهرجان واختارها، للترويج عن نفسها عند خروجها في الصالات
المجتمع السينمائي الدولي، صنّاعاً ومهرجانات وعاملين في قطاع التوزيع والعرض ونقّاداً، في عزلة، بل في حيرة وارتباك وقلق. إلى متى يمكن الاستمرار بهذا الوضع قبل الانهيار الكامل للقطاع، ومعه اغراق الملايين في البطالة؟ لا أحد يعرف إلى الآن ما هو حجم الخسائر التي تترتب على السينما، فهي اقتصادية قبل ان تكون فنية. البعض بدأ منذ الآن في ابتكار أساليب عرض ومشاهدة وترويج، تكيفاً مع الوضع المستجد. هذه القنوات فرضت نفسها كحل مثالي لا وجود لغيرها في الوقت الحالي، خصوصاً مع ازدياد عدد الجالسين في بيوتهم وخلف شاشاتهم. فرأينا مثلاً كثراً من شركات الانتاج والمؤسسات الثقافية والمهرجانات الدولية، أو حتى أفرادا، يقترحون أفلامهم على الجمهور، مجاناً، بهدف تسليتهم في عزلتهم المنزلية اليومية
اذا كان تظاهرات سينمائية لجأت إلى خيار الحضور الافتراضي، مكرهةً لا مخيرةً، فمهرجانا كانّ والبندقية، استبعدا هذا الخيار. قال مفوض كانّ العام تييري فريمو لـ”فرايتي” قبل نحو عشرة أيام ان هذا الموديل لن يجدي، نظراً لروحية كانّ وتاريخه وتأثيره. كانّ احتفالية، لا شيء يعوض الصفير في نهاية العروض، ورد الفعل الجماعي، وصعود السلالم. أضاف فريمو: “أفلام وَس أندرسون أو بول فرهوفن على شاشة كومبيوتر؟ ألم يتم تأجيل عرض هذه الأفلام لنراها على شاشة كبيرة؟ لماذا علينا ان نسبقها بعروض رقمية؟ السينمائيون مدفوعون بفكرة عرض أعمالهم على شاشة كبيرة ومشاركتها مع آخرين (…) لا ان تنتهي على آيفون”
اذا ما استندنا إلى تصريحات فريمو، فهو لا يزال، رغم البيان الضبابي الذي يعلن إلغاء كانّ في شكله الأصلي، يبحث عن سيناريوات أخرى تحيي المهرجان بطريقة ما. في مقابلة أخرى مع “فرايتي”، نُشرت في منتصف هذا الاسبوع، يقول ان الصناعة السينمائية مهددة، ويجب اعادة بنائها حرصاً على مصلحة الجميع لا على المهرجان نفسه فحسب، وانه على كانّ الحضور في الخريف للمشاركة في ورشة اعادة بناء السينما. يكشف فريمو انه توجد محادثات مع القائمين على مهرجان البندقية، لفعل “شيء ما”معاً، في الخريف المقبل، اذا تم الغاء كانّ. بالرغم من ان هذا الطموح يصعب تصديقه، نظراً لصعوبة، لا بل استحالة تحقيقه وتجاوز المنافسة التي بين الحدثين، يبقى السؤال مشروعاً: كيف يمكن عقد شراكة كهذه؟ وفي أي مكان يمكن تنظيم مهرجان موحّد، اذا كان المقصود هو هذا؟ اذا ما استندنا إلى تصريحات فريمو، فهو لا يزال، رغم البيان الضبابي الذي يعلن إلغاء كانّ في شكله الأصلي، يبحث عن سيناريوات أخرى تحيي المهرجان بطريقة ما. في مقابلة أخرى مع “فرايتي”، نُشرت في منتصف هذا الاسبوع، يقول ان الصناعة السينمائية مهددة، ويجب اعادة بنائها حرصاً على مصلحة الجميع لا على المهرجان نفسه فحسب، وانه على كانّ الحضور في الخريف للمشاركة في ورشة اعادة بناء السينما. يكشف فريمو انه توجد محادثات مع القائمين على مهرجان البندقية، لفعل “شيء ما”معاً، في الخريف المقبل، اذا تم الغاء كانّ. بالرغم من ان هذا الطموح يصعب تصديقه، نظراً لصعوبة، لا بل استحالة تحقيقه وتجاوز المنافسة التي بين الحدثين، يبقى السؤال مشروعاً: كيف يمكن عقد شراكة كهذه؟ وفي أي مكان يمكن تنظيم مهرجان موحّد، اذا كان المقصود هو هذا؟
مع اغلاق الصالات، وتوقّف نشاط المهرجانات، تسارع الكثير من الجهات إلى استبدال الحياة الافتراضية بالحياة الحقيقية. منصّات العرض الانترنتية بدأت تتكاثر وتتبلور وتنتشر بسرعة الضوء في ظلّ الضرورة اليها. ولكن، هناك مخاوف حقيقية تستولي على الجسم السينمائي من استمرار هذه الأزمة لوقت طويل. صحافيون عديدون باتوا يفتقرون لمواضيع يكتبون عنها، صالات سينما تواجه منافسة شرسة من منصّات عرض توفّر مشاهدة منزلية بكلفة أقل، قائمون على مهرجانات لا يملكون سوى الانتظار لمعرفة اذا كان كورونا مجرد غيمة سوداء ستمر، أو تشويشا لن يكون بعده كما كان قبله
تساؤلات كثيرة، بعضها مشروع وبعضها الآخر ينطوي على تهويل ورغبة في استباق الحوادث ومجاراة النمط الصحافي الذي يدغدغ المشاعر باستخدام العبارات الفضفاضة. ولكن، يبقى ان المشهد السينمائي أمام تهديد كبير لم يعرف مثله منذ سنوات. ذلك ان السينما هي في الأصل، قطاع بات هشّاً في السنوات الماضية. هل التحديات الجديدة التي ولدت في زمن كورونا ستفرض على المهنة اجراء تغييرات؟ ماذا اذا أصبحت الحلول المرحلية هي القاعدة في ما بعد؟ وماذا أيضاً اذ اضطر الجميع، التكيف مع الظروف الاقتصادية، لا العكس؟
فجأةً، يجد الفنّ السابع نفسه أمام لحظة مصيرية واستحقاقات جديدة، هي نتيجة تراكمات السنوات الأخيرة لا وليدة اللحظة: منذ اختراع السينما، في أواخر القرن التاسع عشر، لم يسبق ان توقّف هذا العدد من دور العرض حول العالم. حتى في أحلك ظروف الحرب، فتحت الصالات أبوابها واستقبلت المشاهدين وهي كانت أحياناً ملاذاً آمناً من شرور المتخاصمين في الخارج. اليوم، نراها تنطفئ، ولا يعرف أصحابها متى سيشع فيها النور، ليزحف اليها الناس مجدداً. ولا شيء يؤكد أيضاً ان الكثير من الصالات ستعود إلى سابق عهدها مع عودة الحياة إلى طبيعتها. الفيروس أعلن حرب استنزاف طويلة على معبد الصورة حيث اعتاد الناس التجمّع منذ أكثر من قرن. القاعات الصغيرة، التي تأكل من لحم كتفها لتستمر، ستقع حتماً تحت وطأة الأعباء المالية المتراكمة وتعلن افلاسها، أما تلك التابعة لشركات كبيرة، فستعاني الكثير لالتقاط أنفاسها مرة جديدة
الاقبال على صالات السينما، في العالم أجمع، ليس في تراجع دائم كما يروَّج أحياناً. أقله، هو ليس كذلك في البلدان المتقدّمة اقتصادياً، تلك التي تملك تقاليد مشاهدة عريقة تضرب جذورها في الأرض. في فرنسا مثلاً، حيث وُلدت السينما، ٢١٣ مليون بطاقة بيعت طوال عام ٢٠١٩، ما يشكّل ارتفاعاً في نسبة ٦ في المئة عن العام السابق. بعض الجهات تروّج لموت السينما في الصالات وتتلذذ بنظريات خاطئة لا قيمة لها على أرض الواقع. هذا الانقطاع… أو لنقل هذا التباعد الزمني والمكاني بين المشاهدين والصالات، قد يؤسس لحالة فتور تستمر وتمتد وتتبلور في الاتجاه الذي يريده البعض، لتنعكس في النهاية سلباً على العلاقة بين الجمهور والصالات. لم تعد المشكلة في الوباء، بل في توظيفاته. هكذا كانت الحال دائماً؛ تبدأ المشكلة في مكان، ثم تنتقل إلى مكان أشد خطورةً، كما هو وضعنا الآن عند انتقالنا من كفّ الصحّة إلى كفّ الاقتصاد. المؤكد ان حالة العزلة التي خلقتها المشاهدة المنزلية، سابقة في تاريخنا الحديث، وهي تضرب واحدة من “قيمنا”: الحاجة الاجتماعية للتلاقي بين البشر، التي سمحت بوجودها الفنون البصرية، مثل السينما والمسرح والأوبرا والرقص
لم يعد الخطر يتمثّل في ان يهاجر المشاهدون الصالات، بل في ان يتم افتعال كلّ الظروف وتهيئة الأرض لحثهم على ذلك لأسباب تتحكم بها القوى الرأسمالية التي صار كلّ شيء بين يديها، بما فيه صناعة الصورة وقنوات عرضها. الخطر الأكبر، في ان تتحوّل الصالات مع مر الزمن، من متن إلى حيز محصور بالهامشيين وحكر على الفضوليين وحدهم دون سواهم، بدلاً من ان تبقى فضاء رحباً للجمهور العريض الذي سيهاجر إلى منصّات العرض الرقمية. كلّ هذه الأخطار لا تواجَه بخطّة مدروسة. لا يفعل العاملون في السينما من الذين في الخطوط الأمامية، سوى صون وجودهم، بأنانية تامة، من دون التفكير بصورة أوسع، في دور الصالة في بناء المجتمعات
بالمصادفة، رأيتُ أمس صورة محزنة: واجهة سينما “الأمير تشارلز” في لندن بعد اقفالها الموقت، وقد كُتب في أعلاها عبارة “سنعود”. لا شك ان السينما ستعود، عندما يقرر الفيروس انه أنجز ما يكفي من الخراب، ولكن بأيّ حال ستعود؟
صحيفة النهار اللبنانية