ابراهيم العريس
عند بدايات العقد ما قبل الأخير من القرن التاسع عشر، أي عام 1881 تحديداً، كان بيار أوغوست رينوار، قد وصل كما سيكتب هو بنفسه في مذكراته لاحقاً، إلى طريق مسدود. لقد شعر حينها أنه وصل إلى نهاية تفاعله مع النزعة الانطباعية وراح يحس أنه خلال السنوات الفائتة قد عبر عن كل شيء يريد التعبير عنه، وخاض في كل المواضيع الممكنة كما قال مضيفاً: «ولم يعد لدي ما أقوله. باختصار رحت أشعر أنني لا أحسن لا الرسم ولا التصوير… كل ما حولي راح يبدو لي فراغاً في فراغ…». ولكن ذات لحظة، ودائماً بحسب ما يخبرنا رينوار، أشرقت في رأسه فكرة جديدة لم تكن قد خطرت لي في بال من قبل «فكرة فحواها أن تلك النزعة الانطباعية» التي كان يتبناها وينتمي إليها– وسيقول الآخرون لاحقاً أنه كان زعيمها ولو أنه لم يكن هو من أوجدها– «لم تكن سوى فن توليفي معقد، يتعين على الفنان أن يغش دائماً إن هو حاول الدنو منه». يومها تجاور هذا الإدراك لدى رينوار مع إدراكه في الوقت نفسه أن ثمة «في الخارج، أي خارج المحترف الذي كان يعمل في داخله، نوراً أسطع بكثير من النور الذي يتأمن داخل المحترف. كما أن النور الذي يشع في الخارج، نور متنوع يتبدل بتبدل الظروف والساعات، بينما نور المحترف هو نفسه دائماً لا يتغير ولا يتبدل».
* ولكن رينوار شعر أيضاً أن الرسام يظل في الخارج مأخوذاً بلعبة النور، بحيث لا يعود لديه من الوقت ما يكفيه للاهتمام بتكوين المشهد: «ثم إن الرسام لا يرى في الخارج ما الذي يرسمه. وأذكر أنني ذات يوم فيما كنت أرسم لوحة في الخارج، رأيت انعكاساً لظل أبيض عريض على لوحتي… فحاولت أن أقوّي اللون بعض الشيء، لكن كل ما حصلت عليه كان أكثر سطوعاً مما أريد بكثير… ثم، حين دخلت إلى المحترف بدا لي كل شيء قاتم السواد(…). إن الرسام حين يصور مباشرة أمام الطبيعة، لا يعود مهتماً إلا بالحصول على التأثير المباشر، فيتخلى عن الاهتمام بالتكوين، ليسقط من فوره، في رتابة قاتلة».
* من الواضح أن رينوار إنما يحاول في هذا الكلام الذي كتبه لاحقاً، أن يبرر الانعطافة الكبيرة التي عرفها فنه في ذلك الحين. ولنلاحظ أن هذا أتى مباشرة بعد زيارة قام بها إلى إيطاليا، عاد منها مبهوراً خصوصاً بفن رافائيل الذي، وكما يقول هو نفسه، أعاد اكتشافه في ذلك الحين، كما أعاد اكتشاف قدرة رافائيل التلوينية الكبرى واكتشف أن «رافائيل الذي رسم لوحاته دائماً داخل المحترف، لم يفعل هذا إلا بعد أن استغرق طويلاً في دراسة الشمس ونورها. ومن هنا، حتى وإن كانت لوحاته رسمت في الداخل، فإنها مملوءة بنور الشمس». ولئن كان رينوار قد عاد قبل ذلك من رحلته الجزائرية عازماً على إدخال التلوين أكثر وأكثر عنصراً أساسياً في فنه، فإنه هنا إذ عاد من اكتشافه لرافائيل، بات يبدو أكثر رغبة في ضبط قضية النور في لوحاته– في شكل لا يخضعه إلى مزاجية الخارج– ما يسمح له بالتفرغ، في كل لوحة من اللوحات، لتكوين المشهد نفسه، حتى وإن كان ثمة من بين هذه اللوحات ما يبدو وكأنه رسم في الخارج على الطبيعة.
*وإلى تلك المرحلة تنتمي، بالطبع، أعمال لرينوار تعتبر من أجمل لوحاته، وإن كان مناصرو الانطباعية الخالصة أساؤوا فهمها وتقبّلها، محاولين أن ينالوا منها عبر وصفها بـ «الانطباعية الفوتوغرافية»… ولا بد من أن نذكر هنا أن رأي هؤلاء قد ساد لفترة طويلة من الزمن، قبل أن يعاد اكتشاف هذه اللوحات لرينوار، على يد باحثين أكثر حداثة، فإذا بها تُقدّم بالتدريج– فنياً ومن ناحية العلاقة مع الموضوع– على اللوحات الانطباعية الخالصة، كما على لوحات رينوار «الجزائرية». ولئن كانت البداية في هذا الإطار مع لوحة «شقيقتان» (1881)، فإن الذروة وصلت، مع لوحة «بنتان بالأسود» التي أنجزها رينوار في العام نفسه لتتلوها لوحة «المظلات». من ناحية مبدئية تبدو كل هذه اللوحات وكأنها لوحات خارجية، ولكن من الواضح أن علينا، بالأحرى، اعتبارها لوحات مرحلة انتقالية، تعبر– على الأقل– عن تأرجح الرسام بين الاستمرار في استخدام الضوء الطبيعي، ورغبته الجديدة في تكوين المشهد داخلياً في اعتماد على مصادر نور ثابتة.
* توجد لوحة رينوار «بنتان بالأسود» في متحف بوشكين في موسكو، ويبلغ عرضها 65 سم وارتفاعها 81 سم. ولئن كان رينوار قد جعل خلفيتها، بألوانها الزاهية والموحية بحضور جمع من الناس في ما يشبه العيد والاحتفال، استمراراً للأسلوب الانطباعي، فإنه في تكوين المشهد، جعل الحديث بين الصبيتين يبدو من الأهمية بحيث يشي بعدم وجود أي اهتمام لديهما بما يحدث من حولهما. إن رينوار يهتم هنا، وكما في «الشقيقتان» وفي «المظلات»، بدقة التفاصيل وبالنظرة الواضحة وكأنه يسعى جهده لمحاكاة دقة رافائيل في هذا السياق. وهو حتى وإن كان قد أضفى على ملابس الفتاتين لمسات فرشاة انطباعية متموجة، فإنه في الوقت نفسه، عبر استخدامه اللون الكحلي المسودّ، وعبر حوافي الثياب التي جعلها متناقضة مع حوافي الطاولة والكراسي، حاول– وربما إلى حد ما على طريقة كان مانيه سبقه إليها، خصوصاً في استخدامه اللون الأسود– أن يزاوج بين نظرتين إلى الانطباعية. وهذه المزاوجة هي بالتحديد ما نسميه هنا بتأرجح انتقالي بين مرحلتين وأسلوبين، بحيث يبدو أن النص الذي كتبه رينوار عن التبدل الذي تأكد ولوجه فيه منذ عام 1883 تحديداً، إنما هو تبرير وتفسير لاحق لرغباته التغييرية، لا تنظيراً مسبقاً لها. بل أكثر من هذا: أن تركيبة المشهد هنا، في طابعها الاستعراضي– في مواجهة منظور الفنان-، تبدو متناقضة تماماً مع «العفوية» المفترضة للمشهد الانطباعي. والحقيقة أن هذه الحرية الجديدة التي أعطاها رينوار لنفسه في مجال الاشتغال داخل الانطباعية وخارجها في الوقت ذاته، والاشتغال داخل الضوء الطبيعي وخارجه، وداخل المشهد العفوي وخارجه، ستتواصل لديه لتصل إلى ذرى أخرى، لا سيما عام 1883 تحديداً، حين رسم تلك الثلاثية التي صارت علامة أساسية من علامات مساره الفني: «الرقص في بوجيفال» و «الرقص في الريف» و «الرقص في المدينة». فهذه اللوحات الثلاث (التي توجد منها اثنتان في متحف الأورساي الباريسي، والثالثة في متحف الفنون الجميلة في بوسطن)، هذه اللوحات تعبّر عن انطلاقية رينوار في تعامله مع حريته التعبيرية الجديدة، التي– من دون أن تخرجه نهائياً من خانة الانطباعية– مكّنته من أن يخلق انطباعية جديدة تخصه وحده وتحاول أن تجعل للموضوع مكانة متقدمة على مكانة النور والتلوين. هنا، في هذا الأسلوب بات للتكون دور أساس في لوحة رينوار، ما أعطاه تلك الفرادة، التي ستوصف لاحقاً بأنها «سينمائية ما قبل السينما»، بعدما كانت لوحات سابقة مثل «صبيتان باللون الأسود» قد وصفت بـ «الانطباعية الفوتوغرافية». ومن هنا لم يكن غريباً أن يقام قبل سنوات قليلة من الآن، معرض باريسي كبير تجاورت فيه لوحات لرينوار من هذا النوع، مع مشاهد ومقتطفات من أفلام لابنه السينمائي الكبير جان رينوار، في سعي لإيجاد الحركة المشتركة بين تعبير الأب وتعبير الابن.
*عاش بيار أوغوست رينوار بين 1841 و1919، وهو ولد في مدينة ليموج في الوسط الفرنسي ابناً سادساً، بين سبعة، لخياط متوسط الحال في تلك المدينة… لكن الأسرة انتقلت عام 1844 إلى باريس، حيث درس بيار أوغوست أولاً في المدرسة الكاثوليكية ثم دخل متمرناً على الرسم على البورسلين، حيث رسم الزهور طوال سنوات عدة. وهو انتقل بعد ذلك من رسم الزهور إلى الديكور، فإلى دراسة لوحات روبنز وفراغونار وبوشيه في متحف اللوفر، ليبدأ الرسم بعد ذلك في غابة فونتنبلو في رفقه مونيه، وبازيل وبيسارو وسيزان، فكانت انطلاقته وكذلك بداية الانطباعية التي سيقول رينوار إنها ولدت حين تخلى ورفاقه عن اللون الأسود في لوحاتهم، ومن هنا لا بد من القول إن العودة إلى اللون الأسود، لدى رينوار خصوصاً، كانت المؤشر الرئيس إلى أن الانطباعية انتهت، أو على الأقل صارت جزءاً من مكونات طبعت لوحاته الأخيرة.
المصدر: جريدة الحياة