عبدالعزيز
كل ما يحدث هذه الأيام يوحي أن مهنة التصوير هي أكثر الفنون عرضة للتهديد بمفاهيمها الكلاسيكية، برغم التطور التقني الذي يشهده العالم والذي يزيد من الاهتمام بكل ما هو بصري، أو ربما بسببه. ثورة الهواتف المحمولة أتاحت التقاط الصورة ومشاركتها على نطاق متسارع وبسهولة شائعة، على نحو بات يقلص الحدود شيئاً فشيئاً بين الهاوي والمحترف، ويصنع معايير جديدة لقيمة الصورة، أي صورة، ومدى فنيتها وجدارتها بالانتشار. في ظل هذه التطورات الحديثة، وبرغم كل تلك التنبؤات بتراجع قيمة الفوتوغراف، لمع نجم مصورة أمريكية، تُدعى فيفيان ماير، كانت مجهولة تماماً قبل أن يعثر على أرشيفها بالصدفة وينشر لأول مرة عام ٢٠٠٩. خلال هذه الأعوام الخمس الأخيرة منذ اكتشافها، تم نشر عدد يصعب حصره من الكتب والمقالات والدراسات بخصوصها، العديد من المعارض تم إقامتها لصورها ولازالت في ازدياد، البي بي سي صنعت فلماً وثائقياً عنها في العام الماضي، ثم جاء فلمنا هذا، Finding Vivian Maier – 2013، ليسلط الضوء عليها وينشر ظاهرتها كما لم يفعل شيء من قبل. وربما لن يكون الأخير، لكنه حتى الآن يبدو أبرز ما تم عمله بشأنها.
فيفيان ماير 1926 – 2009، التي ماتت غير مدركة لما ستكسبه من شهرة، ظلت تلتقط الصور طيلة عملها كمربية منزلية لمدة 40 عاماً، دون أن تشارك بها الآخرين ممن تقاطعت معها في حياتها، والذين اعتبروا غالباً أن ما تقوم به مجرد هواية، باستثناء أنها لم تكن هاوية، فالحديث هنا عن مصورة تملك كل المقومات التي تجعلها جديرة بأن يرى أكبر قدر من الناس أعمالها، إن كان للتصوير اي مقومات كهذه. فأنت تجد في صورها بهجة الحياة اليومية البسيطة في أكمل حالاتها كما عند الفرنسي كارتييه-بريسون، والجانب المظلم للحلم الأمريكي كما عند روبرت فرانك، بل وحتى جماليات القبح والغرابة عند ديانا أربس، وغيرها من الملامح التي اشتهر بها أبرز مصوري جيلها. كما أن نتاجها الهائل الذي يصل إلى مئات الآلاف من الصور، والذي يحافظ في جزء كبير منه على ما هو جدير بالعرض، يوحي أنها كانت تعمل بقدر كبير من الشغف والجرأة والاحترافية التي لا تتخلى عن معاييرها الدقيقة وتجريبيتها الفريدة ولا ترضى بأن تكون أقل جدارة بهذه المكانة العالية التي حصلت عليها بعد موتها. كل هذا يحرض الأسئلة التي ينطلق منها الفلم: لم اختارت أن تبقى مغيبة رغم كل هذا؟
لا يملك أحد مصادر أفضل لبحث كهذا أكثر من جون معلوف، الذي أخرج وأنتج هذا الفلم بالمشاركة. فالشاب الذي لم يكن ضليعاً بالفن كان قد عثر بالصدفة في مزاد محلي على صور فيفيان وسط صندوق يحوي مقتنياتها الشخصية، ليبدأ بعدها رحلته في امتلاك كل ما يمكن العثور عليه منها، متسلحاً بما أدركه لاحقاً عن براعة هذه الصور ومدى ما ستحدثه في الناس من تأثير، هكذا انتهى به الأمر لامتلاك حوالي 90% من مجموع أعمال فيفيان المتوفرة الآن. لا يمكن اختزال دوره في كونه كان فقط محظوظاً بمصادفتها، فما فعله لن يفعله معظم من يجدون بين أيديهم فجأة أرشيفاً غامضاً يتطلب هذا القدر من التقصي، ربما حتى لو كانوا متخصصين ومتوسعين في الفن، وهذا ما يجعل جهده أشد إثارة للاهتمام. فالكثير من المتاحف التي حاول فيها الترويج لأعمال فيفيان كانت ترفض مخاطرة أن تقيم عروضاً لفنانة لم يسمع بها أحد من قبل، في حين تشبث هو بمشروعه، ساعياً للترويج لها عبر الانترنت ونشر الكتب وأخيراً بصنع هذا الفلم الذي يعد باكورة جهوده. معلوف لم يكن بالتحديد متواضعاً اتجاه جهوده تلك، فمنذ الدقائق الأولى للفلم يوجه الكاميرا لنفسه، قبل أن ننطلق معه في تمحيصه لمقتنياتها، ومقابلاته مع الأشخاص الذين عرفوها في فترات مختلفة من حياتها، وصولاً إلى نتائجه وخلاصاته من كل هذا، شاعرين بحضوره في كل خطوة نتعرف بها أكثر على فيفيان.
عمل جون، كأي مبتدئ، لا يمكن أن يكون خالياً من الأخطاء والعيوب سهلة الملاحظة، لكنه يتصالح مع هذا باعترافه المباشر للكاميرا وإبقائنا قريبين مما يعتريه من إشكاليات تواجهه في جهده شبه الفردي. كما أنه يتصالح مع تعدّيه على الحياة الشخصية لفيفيان بكونه يساهم في نشر أعمالها، ويلعب في الوقت نفسه دور الباحث الذي يسعى لتقديم صورة متكاملة عنها للعالم. في جزء من الفلم يطرح الإشكال الأخلاقي عن نشر عمل فنان ما بعد موته دون موافقته، هل الفضول يبرر لنا هذا التعدي على حق أحدهم في عدم الرغبة بالظهور للعلن؟ الإجابة صعبة ونسبية جداً، لكن المثال المفضل لدي في هذه الحالة هو فرانز كافكا، الكاتب التشيكي الذي أصبح أحد أهم كتاب القرن العشرين، كان أثناء مرض وفاته قد أوصى صديقه ماكس بحرق كتاباته، وبفضل مخالفة ماكس لرغبة كافكا بعد وفاته فإن خارطة الأدب تغيرت بسبب التأثير الذي أحدثه ولا زال يحدثه كافكا حتى اليوم. لا أعتقد أن هذه المخالفة يمكن تبريرها بسهولة بوصفها تضحية أخلاقية نبيلة من ماكس، فالأمر لا يقتصر على رغبته بمشاركة أعمال كافكا بل أيضاً بإعلان نفسه حافظاً وصائناً لها، وهو بذلك لا يضع نفسه بطريقة متلوية في مكانة صانعها فحسب، بل ويكتسب شعوراً بالتفوق عليه، نابع من قدرته على التحكم بإنتاجه، وربما أيضاً من شعوره بأنه يقدر هذا الإنتاج أكثر من صاحبه، ولذا ليس من غير الطبيعي أن يشعر أنه أكثر جدارة منه بالتصرف به.
ربما يبدو نشر معلوف لأعمال فيفيان تصرفاً وقحاً عطفاً على هذه المقارنة، لكنها وقاحة ضرورية، لا نملك إلا أن نكون مدينين لها. المثير في حالة فيفيان تحديداً أنها بدورها خضعت لذات الاختبار الأخلاقي، ولم تكن مجرد ضحية في طرف واحد لرغبة أحدهم الانتهازية بعرضها رغماً عنها، إذ كانت تمارس هذا العرض الإرغامي على من تقوم بتصويرهم دون علمهم، وحتى رغماً عن علمهم وعدم موافقتهم في أحيان كثيرة. فالتصوير الشوارعي هو بطريقة ما ممارسة لذات الفضائحية التي تضع أحدهم على خشبة العرض دون رغبته، الأمر الذي تكشفه الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ بملاحظة حادة إذ تقول: “تصوير الناس هو الاعتداء عليهم، هو أن نراهم كما لم يروا أنفسهم أبداً، أن نمتلك معرفة عنهم لا يمكنهم أن يمتلكوها، إنه يحول الناس إلى أشياء يمكن الاستحواذ عليها رمزياً.” وتصفح بسيط لصور فيفيان يمنحك فكرة عن مدى استغلالها للمزايا البصرية للآخرين لتأطيرهم ضد رغبتهم، بعضهم قد يكون سعيداً بهذا والكثير كانوا ليشعرون بانتهاك خصوصيتهم، حتى أن بعض الصور تلتقط النظرات العدائية والمستهجنة للأشخاص الذين صورتهم حين يكتشفون ما تفعله، وهي تدرك هذا وتلتقط وجوههم في تلك اللحظة، لأنها تكشف فيهم شيئاً جوهرياً لا يمكن أن يكون أكثر حقيقية وشحناً وإغراءً منه في لحظات أخرى. إنها وقاحة وتعدي، لكنها بالنسبة لفيفيان ضرورية، لأنه لا يمكن الوصول لهذا الجمال دونها.
المشكلة الحقيقية إذاً لا تكمن في سؤال إذا ما كان يملك الحق في مشاركة أعمال فيفيان أم لا، كما يقترح معلوف، بل في المدى الذي يحق له ممارسة دور المحلل النفسي ونبش أكبر قدر ممكن من تفاصيل حياتها الخاصة، مبرراً ذلك بفكرة أنه لم يكن لكيتشف فيفيان لو لم يكن مدفوعاً بفضوله، في حين يطوع ما ينتقيه من معلومات ليخدم صورة حررها بنفسه عن فيفيان وقدمها للعالم. معلوف يستعين في هذا طبعاً بمقابلاته مع الأشخاص الذين عاشروها أثناء فترة نشاطها، خصوصاً في البيوت التي عملت لديها كمربية منزلية. ذكرياتهم المتناقضة عنها متأثرة بمرور السنين، ما يتجاوز 30 عاماً في بعض الحالات، ومضخمة بإدراكهم لحضورهم أمام الكاميرا، كما يحدث عادة في الوثائقيات التي تجرى مع أشخاص لم يجربوا أن يكونوا تحت بقعة الضوء من قبل. لكن التحريف الأهم الذي يحدث في هذه الحالة مع من عاشروا فيفيان، وهم يشعرون بأن أنظار العالم مصوبة نحوهم الآن، يحدث نتيجة إدراكهم المتأخر أنهم عاشروا “فنانة عظيمة” دون أن ينتبهوا لهذا، هذا ما يدفعهم للبحث عن الغرابة فيما يذكرونه من تصرفات فيفيان، ليؤكدوا أن استثنائيتها لم تفت عليهم تماماً، دون أن يتورعوا عن ذكر كل ما هو متطرف وربما منفر في تلك الغرابة، كما لو أنهم بهذا يدفعون عن أنفسهم تهمة أنهم لم يراعوا “فنيتها”، ويعلنون به براءتهم من أن يكونوا بطريقة ما قد ساهموا في تغييبها.
كل هذا الاقتحام لحياة الفنان الشخصية يقول لنا عن طبيعتنا المتطفلة أكثر مما يقول لنا عن طبيعة الفنان نفسه. تبعاً لهذا النوع من إماطة اللثام، تتحرك توجهاتنا للتقرب من الفنان، أثناء سعينا المزعوم لفهمه، خلف سؤال مضلل: هل كان حزيناً أم سعيداً؟ في حين قد لا تكون ثمة وسيلة أفضل لفهمه من أن نتوقف عن تفسيره خارج نتاجه الفني. ثمة خلط كبير بين صورة فيفيان مثلاً وبين الصورة الجذابة للفنان الذي لم يلقى التقدير الذي يستحقه، فلنقل فان غوخ الذي انتحر حزناً وكمداً لأنه لم يبع ما يكفي من لوحاته. صورة كهذه لا تتوافق مع نسوية كانت تخرج للشارع وتجري مقابلات مع الناس، كما يظهر في أفلام ومقاطع صوتية سجلتها بنفسها، وتعبر عن رأيها بحدة وجرأة وثقة لا تتعارض مع قدرتها على الترويج لفنها لو أرادت له الانتشار، وهي التي قالت في أحد هذه التسجيلات: “لقد عشت حرة، وسأموت حرة، لأنني فعلت دائماً ما أريد.” إن أجمل ما في حالة فيفيان هو أنها متحررة من هذا الترويج الذاتي، أعني لا-فرديتها التي توجه اهتمامها بشكل دائم لما هو خارجها، دون أن تطري بهذا وعيها وإدراكها وفهمها، دون حتى أن تطري لا-فرديتها هذه، ومشكلة الفلم أنه يتعامل مع هذا كنقص، كفراغ يجب عليه أن يسده، كما لو أن صورتها لن تكتمل دون أن يثبت شعورها بالتهميش وعدم التقدير، الأمر الذي لا يتجاوز سوى إسقاط معلوف لشخصيته على شخصية فيفيان.
صورة فيفيان كانت لتصبح بالطبع أكثر جاذبية وأسهل هضماً ضمن كليشيه الفنان المهمش ذاك، لكن تفسيرها في هذا القالب ينطوي على سوء فهم كبير لها وتسطيح لما قدمته. المفارقة هنا أن التصوير الفوتوغرافي، أكثر من أي فن آخر، متحرر من هذه النزعة لربطه بذاتية الفنان. إن علاقة الصور مع ثقافة ومعرفة المصور مبهمة، ولا يمكن إحالته بسهولة إلى مرجع معرفي أو إدراك ما، وبالتالي يقع الفلم في العديد من الأخطاء نتيجة تجاهله لفكرة “الفوتوغراف من أجل الفوتوغراف”، وافتراضه أن كل ما تقوم به فيفيان كانت تقوم به نتيجة تفكير عميق وانتباه بطولي ورغبة في التخليد، وهذا بدوره مبني على فرضية أخرى ينطلق منها الفلم كما لو كان مسلماً بها، وهي أن فيفيان كانت تمارس التصوير كفن، ليس كمجرد هواية لاكتفاء ذاتي، دون أن يقدم الفلم أي شيء يثبت وعيها بفنية ما تفعله. هذا بالطبع لم يكن ضرورياً لإثبات جدارتها بالانتشار، فالعديد من الفوتوغرافيين الرواد عبر تاريخ الفوتوغراف مثل بول ستراند وموهولي-ناغي وغيرهم، كانوا يفكرون بأنفسهم كباحثين، مسجلين، مراقبين بتجرّد، مجرد شهود على الواقع، وظلوا رافضين رغم كل ما لقوا من نجاح أن تنسب لأعمالهم أي قيمة فنية، رغم امتلاكها كل مقومات هذا الزعم.
الأمر يختلف بشكل جذري ليس فقط من مصور إلى آخر، بل وبالنسبة للمصور نفسه في سياقات مختلفة، فكارتييه-بريسون الذي قال أنه يصور “مصمماً على إيقاع الحياة في الشَرَك، لأبقي الحياة في وضع الحياة”، هو نفسه يقول في موضع آخر أنه يصور فقط “بحثاً عن نوع من النظام في الأشياء.” العبارة متعارضة مع سابقتها في تعاطيها مع دوافع التصوير ونواياه ومزاج اللحظة أثناء التصوير، لأن التصوير لا يحمل أرضية فنية ثابتة، والمصور نفسه لا يكون دائماً متأكداً مما يصوره. لذا فإن العديد من المصورين يرفضون منح أسباب جاهزة أو حتى مبتكرة لممارستهم للتصوير، في حين أن الأمر بالنسبة للبعض ليس أبسط مما ذكره غاري وينوغراند: “أنا أصور كي أكتشف ما سيبدو عليه الشيء وهو مصوَّر.” من الصعب أن نحدد أياً من هذه الاحتمالات والمبررات والأهداف كانت فيفيان تنطلق منها، إن كانت تملك أحدها. إن هذا لا يلغي طبعاً جدارة المصور بأن يتم تحليل صوره وتوجهاته وميوله وجماليات حساسيته البصرية، لكنه يثبت أنه كلما زاد اكتفاء العمل بنفسه، كلما زادت حداثته وقدرته على الإدهاش، الأمر الذي يمكن تلخيصه أخيراً في عبارة روبرت فرانك: “لإنتاج وثيقة معاصرة أصيلة، فإن التأثير البصري يجب أن يلغي التفسير”. وبهذا المنطق لا يمكن فقط أن نتوصل إلى أن فيفيان كانت أكثر أصالة من كل أوصيائها، كل من حاولوا تفسيرها كما لو أنهم فهموا ما تفعله بنضج يتجاوزها، بل إنها كانت، وستبقى، أكثر معاصرة منهم أيضاً. وهذا ما يجعلها فائقة التأثير، كما لو أنها تصنع توازناً مستحيلاً، تعيد به إيماننا باكتفاء لم يكن يبدو ممكناً في هذا العصر.
المصدر: SBO