سوليوود «القاهرة»
أسدل مهرجان القاهرة الدولى الستار على عروضه السينمائية فى دورته الـ41، واضعا جمهوره فى حيرة شديدة حول أكثرها متعة وحبكة وثراء فنيا، وذلك كما جاء في صحيفة الشروق.
فى فيلمه «الفنار» The Lighthouse، الذى عرض بالقسم الرسمى خارج المسابقة، أسر المخرج روبرت إيجرز جمهور المهرجان بتحفة فنية ربما تبقى خالدة فى ذاكرة الكثيرين منهم، إنه ليس عملا عن مجرد عاملين فى منارة تحيطها العواصف فى جزيرة نيوإنجلاند، ويكتنفهما الجموح والهلوسة كسرا لحدة الفراغ الموحش، بل يتعدى ذلك إلى استعراض دواخل النفس البشرية بشغفها وصراعاتها اللامنتهية، مستخدما تقنيات الصوت والصورة فى دفع المشاهدين ذاتهم إلى معايشة الحالة، يجلسون على كراسى المتفرجين وكأن البحر من حولهم.
والفيلم قد يكون محبطا لمحبى أفلام الرعب والعنف التقليديين، الذين ينتظرون وحشا حقيقيا أو خياليا حاضرا فى الأحداث، لكنه يقدم مادة ثرية وجديرة بالمشاهدة لهواة الواقعية الرمزية، فالوحش فيه هو الوحدة القاتلة والوقت الذى يبدو كالموت الإكلينيكى، الجريمة والعقاب، الصراع داخل النفس البشرية ذاتها، لأن الواقع قد يكون أكثر رمزية من الخيال أحيانا.
يتناول الفيلم قصة حارسى المنارة توماس ويك (ويليام دافو) وإفرايم وينسلو (روبرت باتنسون)، اللذين يكافحان طوال الأحداث فى صراع مع الهوية والوقت، داخل القصر الضخم الذى تعلوه المنارة.
متقمصا شخصية كابتن إيهاب فى رواية هيرمان ميلفل «موبى ديك»، يتحدث ويك ــ الذى يرمز اسمه الأخير أيضا إلى مصطلح المياه المضطربة ــ أمام وينسلو بهيئة رجل البحر الكلاسيكى فى الأساطير القديمة، مستحضرا وحوش نبتون فى رواياته وشتائمه، واضعا لمساعده قائمة محاذير ممنوع مخالفتها «لا تصعد إلى أعلى المنارة»، «النوارس تحمل أرواح البحارة القدامى.. لا تقتل أيا منها فتصيبك اللعنة»، على درجة تصديقك فى أساطير البحر سيكون مصيرك.
لا يؤمن وينسلو كثيرا بما يعتقده ويك، إلا أنه يعيش نفسه حالة من الهلوسة مع حورية بحر تمر على مخيلته كلما لامس تمثاله الشبيه لها بحميمية، لذا لا يجد خطرا من قتله نورسا بطريقة غاية فى الوحشية، ومع مرور الوقت، تتصاعد الهلوسات إلى عقل الحارس الشاب، حورية البحر تشده إليها لتغرقه، بينما يتلاعب ويك بالزمن والأحداث داخل مخيلته، فتتغير الصورة السردية إلى أخرى أكثر ديناميكية وتجريدية، يستدعى فيها الغموض لحظات الاعتراف بالحقيقة، فى صورة حرفية أو كوابيسية أو كليهما.
ومن السكون الموحش الذى يلتف المكان، رغم اضطراب خارجه، يشكل مخرج الفيلم ساحة خصبة للشجار عديم الجدوى بين الرجلين، والقفز رقصا وصراخا، يتخطى فيها وينسلو حاجز الرهبة من رئيسه، وكلما تواصلت الأحداث، زاد اليقين بعدم جدوى التفكير فى الوقت، وعدم التزام الشخصيتين بأى نوع من الواقع الزمنى.
تتصاعد ذروة الأحداث باكتشاف ويك سرقة وينسلو شخصية آخر يدعى توماس أيضا قتله لسرقة هويته، ووقوع كتاب ويك بين يدى الحارس الشاب ليجده مليئا بالنقد والتوصيات لحجب الأجور عن مساعديه السابقين، يتغلب توماس الأصغر على رئيسه الأكثر دموية، ويحاول دفنه حيا، قبل أن يغرز فأسه فى وجهه، المشهد مرعب ووحشى، لكن وينسلو لم يجد بدا منه ليشق طريقه إلى المنارة ويحدق أخيرا فى الضوء.
وتبدو تعبيرية العمل واضحة بشكل كبير مع توهج وجه الشاب الملطخ بالدماء مع السطوع الواضح للمنارة، ناظرا إليه فى شغف وهلوسة، تدفعه للتراجع قليلا، ليسقط من أعلى الدرج الحلزونى إلى أسفل المنارة، ويترامى جسده على الصخور، لتأكله طيور النورس حيا، على غرار قصة بروميثيوس، الذى سرق النار من الآلهة وعاقبه زيوس (هوية محتملة لتوماس ويك) بتقييده فى صخرة وترك نسر يأكل كبده، كعذاب يتكرر يوميا، فى نهاية تليق بصدمة الختام.
العمل حمل عبقرية واضحة فى استخدام فلسفة الرمزيات فى الأحداث والشخصيات، فالمنارة هنا تعد إشارة لأسياد البحر والآلهة والشياطين، وكل منها ممثل بصورة أو بأخرى فى شخصية ويك، كما يتقارب النورس ذو العين الواحدة مع أودين ذى العين الواحدة وهو إله الحكمة والموت الميثولوجيا النوردية، وهناك أيضا مقاربة أخرى فى قصة الثمرة المحرمة التى اختبر بها الإله آدم، وهى تمثل هنا الضوء فى أعلى المنارة.
لم يرد إيجرز هنا خداع المشاهد باختياره اللونين الأبيض والأسود للإيحاء بأن الفيلم قديم، بل تكاد تكون تلك رغبته فى مقاربة الزمن واضعا الجمهور بشكل لاإدراكى فى توقيت الحدث، مشكلا قطعة فنية مدهشة محبوكة بحرفية، خاصة فى استخدام الكاميرات والعدسات القديمة لإعطائه نسبة أبعاد الفيلم الصامت المربعة غير العادية (1.19: 1)، حتى فى التقاط المشهد ذاته بأربع زواية مختلفة، وفى بعض الأحيان إلى اثنين أو ثلاثة.