محمد رُضا
يختلف «طفيلي» (Parasite) وهو الفيلم الأكثر حظاً بالفوز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي حتى الساعة، للمخرج الكوري الجنوبي بونغ دجون – هو، عن أفلام كثيرة عاينت الفقراء في المدن الكبيرة المحاذين جغرافياً، لأثريائها، وعن العديد من الأفلام التي تتحدث عن صعود وهبوط الطبقات الفقيرة في حقيقة أن هذا الصعود إلى القمة، ولبعض الوقت، لم يكن نتيجة عمل شاق وجهد ثابت. كذلك لم يكن نتيجة ورقة حظ أو لقاء صدفة يجدها الفقير فرصة سانحة وغير متوقعة لكي يرتفع فوق سطح الدنيا، بل نتيجة ساقتها المعرفة بالتكنولوجيا واستخدامها وسيلة خداع.
عندما وجدت الفتاة التي تعيش في بيت تحت مستوى الأرض مع والديها وشقيقها فرصة لكي تزوّر شهادة تخوّل لشقيقها تلبية إعلان نشرته عائلة بارك الثرية بحثاً عن معلم لابنتها المراهقة، لم تتأخر.
الفتاة البارعة كي – جونغ (سو – دام بارك) سرعان ما تلحق بشقيقها كي – تاييك (وو – سك تشوي) للعمل في قصر الثري دونغ إيك بارك (سون – كيون لي) كخبيرة فنية في المنزل نفسه. هذا من دون أن تدرك عائلة بارك الثرية أنهما (كي – تاييك) شقيقان. لاحقاً يتم ضم الأم والأب وكل يتصرف، لحين بعيد، كما لو أنه لا يعرف الآخر.
إنها عملية خداع والعائلة تُطرد لاحقاً مما بدا لها أنه النعيم على الأرض والعمل المجزي، ماديا، الذي سيحوّل وضعها المالي من حال لآخر. وما يفعله المخرج بونغ دجون – هو هو أنه يوظف تلك الفترة التي قضتها العائلة في رحاب المنزل الكبير لرجل الأعمال لا لإظهار التباين الاجتماعي، فقط، بل للكشف، أيضاً، عن عالمين على كل منهما التعامل مع الآخر. الكوميديا الداكنة في هذا الإطار هي أن العائلة الفقيرة تحسن استخدام التكنولوجيا وتحسن التمثيل والإيحاء بواقع مزيّف، بينما العائلة الثرية حبيسة كم كبير من التقوقع والبراءة.
- أغنياء ولطفاء
عندما يتم كشف المستور ويطرد أفراد العائلة من المنزل يجدون القاع الذي جاؤوا منه ما زال حاضراً وبعنف: مطر غزير هابط بلا هوادة يختلط ماؤه بمياه المجاري التي انفجرت، مشكلاً فيضاناً سارياً.
هذا الوضع يلعب مجازياً على صعيد مختلف عن مجرد النظر إليه كحال طبيعي ينشد تصوير البيئة الفقيرة التي انطلقت منها العائلة صوب حياة رغدة قبل أن تُطرد منها. فالمطر بدأ الهبوط بينما كانت عائلة كيم ترقبه من وراء زجاج عريض في منزل عائلة بارك الثري. حينها كانت تستطيع أن تنعم، للمرّة الأولى، بالحس بأنها في أمان منه تماماً كحال العائلة الثرية. لاحقاً يتساقط هذا الوهم وتعود عائلة كيم للعيش في البيئة التي تركتها.
لا يحاول المخرج الكوري إدانة العائلة لكونها زوّرت مراجعها ومثّلت أدواراً خادعة تسللت عبرها إلى البيت وكادت تحكم الإطباق عليه، لكنه يستعرض، عبر ذلك المطر المنهمر، وجهي العملة الواحدة. الوجه الأول التمتع بمنظر المطر والثاني التعرّض لكوابيسها. شيء مثل «من يعد العصي ليس كمن يُضرب بها».
في إحدى المرّات، وبينما يقول رب عائلة كيم لزوجته خلال إقامتهما في نعيم الحياة متحدثاً عن عائلة بارك «إنهم أغنياء ومع ذلك لطفاء»، فإذا بها ترد عليه «إنهم لطفاء لأنهم أثرياء». الحياة لم تدع عائلة بارك يوماً. كل شيء جاهز والثغرات التي سمحت للعائلة الفقيرة بتمثيل دور الطبقة المتوسطة هي طبيعية الوجود لمن يثق بأنه بات محمياً من المفاجآت بسبب طبقته الاجتماعية المميّزة. مرّة أخرى هو بمنأى عن التعرض لماء المطر.
الفيلم مليء بالمجازيات الأخرى. ما يطلبه المخرج من مشاهديه هو عدم النظر إلى الأشياء كما تتراءى بل كما هو مقصود منها. هذا كله يبدأ باختياره للغرفة التي يفتتح الفيلم بها. غرفة عائلة كيم.
نلاحظ أنها تقع تحت مستوى الأرض لكنها ليست مغلقة تماماً. هي ليست تحت أرضية بحيث لا نوافذ لها، لكنها نوافذ عالية ينظر إليها أفراد العائلة كما لو كانت أملاً. تشبه بذلك غرفة في سجن تتربع فيه نافذة صغيرة في أعلى الجدار. عائلة كيم لا ترى كثيرا من تلك النافذة بل ترقب ما يحدث خارجها عند اقتراب الحدث من زجاج النافذة المغلق. هي من الدعة بحيث تأكل طبق بيتزا واحدا تتقاسمه وتعيش الواقع من دون توقعات. لكنها، كما سنرى تباعاً، عائلة تجيد تمثيل الدور المطلوب منها لكونها تملك المهارات: الأب كسائق السيارة الخاصة برب العائلة الثرية، الابن كي – وو كمدرّس لغة إنجليزية، شقيقته كي – جونغ كخبيرة فنون تشكيلية ورسوم، والأم كمشرفة على البيت. في ثنايا ذلك إيعاز بأن هذه العائلة تجيد، فيما تجيد، مزاولة لعبة الثراء والحلول محل العائلة ذات الأصل الثري أساساً لو تمكنت من ذلك تماماً كما حل الأب محل السائق السابق والأم محل المشرفة عبر خديعتين نتج عنهما صرف اليد العاملة السابقة والقبول بالجديدة.
- صورة مغايرة
على عكس أفلام حديثة أخرى عن الفقر (بينها فيلم نادين لبكي «كفرناحوم») لا يدين المخرج بونغ دجون – هو الفقر مطلقاً ولا حتى عائلة كيم في رحلتها القصيرة إلى «فوق» قبل أن تعود إلى «تحت»، بل لا يدين أحداً بل يكتفي بإظهار واقع الأمور كما هي، مانحاً الفوارق الطبقية دوراً تلعبه في تصميم نصّه.
وكما أوردت أعلاه، حقيقة أن عائلة كيم تستطيع أن تلعب دور الطبقة الثرية إذا ما أتيحت لها الفرصة، فإن الفوارق الأخرى لا وجود لها إلا في المظاهر. ما يؤكد ذلك أن الشاب وشقيقته جميلا الوجه والأب حكيم الطبع والأم تعرف شؤونها وتطيع وتطاع. في أفلام أخرى قد يعمد مخرج ما لتصوير الفقراء كأصحاب تصرفات وسلوكيات خشنة وربما كأشرار صغار أو كبار يملؤهم الحقد على الطبقة التي يعملون لديها.
الفيلم «متعوب عليه» في التصاميم أكثر مما يتبدّى في المشاهدة الأولى. لكي يلعب كل شيء دوراً مزدوجاً (الظاهر والمجازي) عليه أن يعتنى باختياره كما أسس المخرج ذلك في مشاهده التعريفية الأولى، ثم كما يؤسس للمشهد الأول الذي ترتفع فيه الكاميرا مصاحبة الشقيق وهو يزور العائلة الثرية أول مرّة. هناك سلّم ما بين مستوى الأرض ومستوى الڤيللا يكشف عن تباين حاصل.
المشهد ذاته، مصوّر بكاميرا تصاحب الشاب من الخلف، يعبر عن بداية زلزال صغير في الذات لمن يبحث لنفسه عن هوية جديدة. الشاب الآتي من القاع سيكذب لكي ينتمي، على نحو أو آخر ومن دون الكشف عن مستوى طبقته، إلى هوية جديدة.
السلم الحجري ذاته هو ما تستخدمه العائلة في هروبها من المنزل في النهاية والكاميرا (تصوير كيونغ – بيو هونغ) في هذه الحالة تتراجع بعدما كانت تتقدم ثم تصب كامل قدراتها على تجسيد الفيضان الذي دخل بيت العائلة الذي تعرفنا عليه في مطلع الفيلم وقد تحوّل إلى مستنقع آسن.