أمير العمري
“نادي السينما” تجربة أسهمت في خلق قاعدة شديدة الأهمية للتذوّق والوعي بدور وأهمية السينما، ودفعت أجيالا من الشباب لدراسة السينما والاشتغال بها.
نادي القاهرة للسينما.. تجربة مضت وانقضت
لا أظن أن الذين قاموا بتأسيس نادي القاهرة للسينما كانوا يدركون أو يتوقعون أن يلعب النادي دورا تاريخيا كبيرا وحاسما في حياة الكثير من الشباب الذين التحقوا بعضويته وعاصروا تجربته وواظبوا على حضور عروضه ونشاطاته.
ورغم أهمية التجربة وما أسهمت به في خلق قاعدة شديدة الأهمية للتذوّق والوعي بدور وأهمية السينما، ودفعت أجيالا من الشباب لدراسة السينما والاشتغال بها، إلاّ أن من المدهش أن هذه التجربة مضت وانقضت، دون أن يكتب أحد تاريخها.
كان نادي القاهرة للسينما مشروعا طموحا من مشاريع وزارة الثقافة في عصر الوزير ثروت عكاشة. ولا شك أن الفكرة ولدت من قلب حالة الزخم السينمائي الذي شهدته مصر بعد هزيمة 1967، أي في خضم حركة المراجعة الثقافية والسياسية التي اجتاحت البلاد، وشغلت المثقفين، بحثا عن أسباب الهزيمة، والرغبة في التحرّر من الثقافة التقليدية العتيقة، والتطلع إلى ثقافة أخرى أكثر حداثة.
كانت هناك رغبة في تطوير السينما، ومد تجربة “القطاع العام السينمائي”، على استقامتها، وربط العملية الإنتاجية بالعملية الثقافية، أي إتاحة الفرصة لظهور ثقافة سينمائية جديدة يمكنها أن تساهم في تطوير الذوق والوعي بحيث تتغيّر نظرة الجمهور في تعامله مع الفيلم.
وراء تلك الرؤية كان هناك عدد من المثقفين والنقاد الذين أرادوا تطوير تجربة “جمعية الفيلم” (التي تعد الكيان الثقافي السينمائي الأعرق في مصر)، لكن لا شك أيضا أن النظرة الرسمية وقتها تلاقت مع رغبة النقاد في الانفتاح السينمائي على التيارات الحديثة والتجارب السينمائية الجديدة في العالم، ولكن ليس بغرض التطوير والتثقيف وزيادة الوعي فقط، بل أيضا لاستيعاب واحتواء حركة السينمائيين الجدد من الشبان الغاضبين الذين سينجحون في تأسيس “جماعة السينما الجديدة” التي أثارت الكثير من الحراك الإيجابي في واقع السينما المصرية، ثم أخذ شباب هذا التجمع يطالبون بـ”حصة” مناسبة من مخصّصات الإنتاج السينمائي في “القطاع العام”، أي من خلال مؤسسة السينما الحكومية التي كانت تنتج عددا لا بأس به من الأفلام سنويا.
وكان الصراع بين القديم والجديد قد انفجر في المجتمع المصري على جميع المستويات في تلك الفترة التي عرفت أيضا نشاطا كبيرا وزخما في إصدار المجلات والجماعات الثقافية، الأمر الذي دفع السلطة إلى احتواء مثل هذه الجماعات وتقديم بعض التنازلات المحدودة لها.
في 1968 تأسّس نادي السينما، وكان المركز القومي للأفلام التسجيلية قد تأسّس في العام السابق (1967) ثم جماعة السينما الجديدة (1968)، ثم مركز الفيلم التجريبي (1969)، وفي ما بعد تأسّست جمعية نقاد السينما المصريين (1972) وجماعة السينمائيين التسجيليين (1972).
وسط هذا المناخ تأسّس “نادي السينما”، أداره في البداية الناقد مصطفى درويش، وقدّم عروض موسمه الأول (1968-1969) في قاعة “إيوارت” بالجامعة الأميركية. وكان مصطفى درويش قد تولّى من قبل منصب مدير الرقابة على المصنفات الفنية على فترتين في وزارة الدكتور ثروت عكاشة في الستينات، وشهدت الفترة الثانية لترؤسه الرقابة بعد وقوع هزيمة 1967 الكثير من المتاعب مع ارتفاع أصوات ممثلي تيار الإسلام السياسي وما أعلنوه من اعتراضات كثيرة في مجلس الأمة على ما كان يصرّح بعرضه عروضا عامة، من أفلام فنية جريئة منها ما لم يكن معتادا لدى شرائح كبيرة من الجمهور.
وقد خذل المثقفون المصريون مصطفى درويش ولم يقف أحد إلى جواره في معركته مع خفافيش الظلام، فأقيل من منصبه ثم ذهب ليؤسّس نادي السينما. وكان درويش مثقفا سينمائيا رفيعا وهاويا عظيما من هواة السينما شأن كل من لعبوا دورا حقيقيا في تطوير الوعي بأهمية فن السينما في مصر والعالم العربي، وكان مثلهم قادما من خارج السينما، فقد كان في الأصل قاضيا درس القانون ووصل إلى أعلى مناصب القضاء.
وعندما فتح النادي أبوابه في بداية الإعلان عن تأسيسه، تقدّم للحصول على عضويته أكثر من خمسة آلاف عضو، تحت تصوّر أن النادي سيعرض “الأفلام الممنوعة”، بكل ما يمكن فهمه بالطبع من كلمة “ممنوعة” هنا، والمقصود الأفلام التي تتضمن مناظر جنسية مثيرة، إلاّ أن وزارة الثقافة أوضحت أن الهدف ليس عرض أفلام ممنوعة، بل عرض الأفلام ذات القيمة الفنية الرفيعة، ولذلك رفض النادي قبول المئات من الطلبات واكتفى بنحو ألف عضو فقط، ولكن هذا العدد زاد في ما بعد وأصبح النادي ينظم عرضين أحدهما في سينما أوبرا والثاني في قاعة الجامعة الأميركية.
تأسّس “نادي السينما” في القاهرة في الوقت الذي صدرت فيه عن وزارة الثقافة أول مجلة ثقافية حقيقية للدراسات ومقالات النقد السينمائي وهي مجلة “السينما والمسرح” وكانت تصدر فصلية في طباعة أنيقة، وتحتوي على قسمين الأول للمسرح والثاني للسينما.
والمفارقة أن الكاتب المسرحي سعدالدين وهبة كان يرأس تحرير قسم السينما فيها. وكان قد كتب أيضا السيناريو لعدد قليل من الأفلام. وضمت هيئة تحرير المجلة الأسماء التالية: أحمد الحضري، صبحي شفيق، سمير فريد ويوسف شريف رزق الله.
وكان معظمهم في سن الشباب وقتذاك. وهم الذين ستبرز كتاباتهم بعد ذلك في النشرة الأسبوعية لنادي السينما، بالإضافة إلى كتابات فتحي فرج ورفيق الصبان وسامي السلاموني وأحمد رأفت بهجت وأنور خورشيد وخيرية البشلاوي وفوزي سليمان ومجدي طوبيا، وكثيرين غيرهم، منهم مخرجون كانوا يكتبون دراسات ومقالات في نقد الأفلام أيضا مثل هاشم النحاس وخيري بشارة وأحمد راشد ونبيهة لطفي ومسعود أحمد.
وقبل منتصف السبعينات ظهرت أسماء جديدة مثل أمير العمري ويسري نصرالله وفايز غالي وعلي أبوشادي وكمال رمزي والفاروق عبدالعزيز. وفي ما بعد استمر الكثير من هؤلاء في ممارسة النقد السينمائي، بينما اتجه غيرهم إلى العمل في السينما أو في الوظائف الإدارية المرتبطة بالثقافة السينمائية، خاصة في مجال نوادي السينما التي انتشرت في ربوع مصر.
كاتب وناقد سينمائي مصري
المصدر: وكالة الحدث