عبير البراهيم
حينما كان يحضر أمام الجمهور كان يعرف كيف يجعل خشبة المسرح تتحرك حيثما كان جسده يتحرك، وحينما تذهب إيماءات وجهه وابتسامته المميزة كان الناس يتبعونه بعيون لا تكف عن الضحك، قبل عقود طويلة كان ملك المونولوجست ثم ملك السنيما ثم المسرح وعلى الرغم من أنه لم يكن ذلك النجم الذي يمتلك مقومات الوسامة الجاذبة كأي فنان، لكنه كان يأتي بالفرح من قلبه المشبع بالحب فاستطاع في تلك الفترة أن يمتلك حب الجمهور له.
فهل يتذكر أحد منا “إسماعيل ياسين” هذا الفنان الكوميدي المصري الذي جاء لعالم الفن بالضحك وخرج منه بالبكاء؟.
في حكاية الفنان الراحل إسماعيل ياسين تفاصيل تكون ذات القصة التي تتكرر في عالم المبدعين من الكتاب والمفكرين والفنانين والإعلاميين أيضاً، فالحقيقة أن المصير دوماً واحد والوجع هو ذاته لكنه يظهر بصور متعددة ترتبط بشكل وتفاصيل الشخصية وظروفها، فإسماعيل ياسين هو الحكاية التي تؤكد بأن مصير الأشياء الجميلة دوماً هو انعدام الفرصة وقلة التقدير.. ذلك ما عاشه إسماعيل ياسين الذي قدم إلى القاهرة وهو ابن 17 سنة ليبحث عن فرصة فعمل صبياً في أحد المقاهي بشارع محمد علي ليقيم بالفنادق الشعبية لسعرها الرخيص وتدرج بالأعمال حتى اكتشفه توأمه وشريك رحلته المهنية المؤلف الكوميدي الكبير أبو السعود الأبياري وكحال أي مبدع في بدايته حينما تقدم له الحياة ملعقة الذهب استطاع أن يخطف الأنظار إليه ليصبح أهم نجوم السينما لشباك التذاكر حيث كان يقدم 16 فيلماً في العام الواحد وهو رقم لم يسبقه إليه أحد.
استطاع إسماعيل ياسين أن يسهم في صياغة تاريخ المسرح الكوميدي في مصر وكون فرقة مع شريكه الأبياري تحمل اسمه وظلت هذه الفرقة ناجحة 12 عاماً قدم خلالها الكثير من الأعمال المهمة مثل “إسماعيل ياسين يقابل ريا وسكينة” و”إسماعيل ياسين في البوليس” و”إسماعيل ياسين للبيع” حتى بدأ حضوره يقل بعدأن أنشأت الدولة آنذاك المسرح التلفزيوني حتى بدأت الفرقة تخسر أمام التيار الإعلامي الجديد في تلك الفترة وهو المسرح التلفزيوني، وأصبح مطارداً بالديون والضرائب حتى قل ظهوره خاصة بعد حالته الصحية التي لم تكن مستقرة.
اللافت في تجربة إسماعيل ياسين ليس لأنه كان نجماً ثم غاب إنما في الجزء الأخير من حياته والموجع والذي بقي فيه يدفع ثمن بزوغ فن جديد منافس لفن المسرح التقليدي الذي كان يقدمه في مسرحه والذي يعد التجربة الرائدة في تلك الفترة، إلا أن المحزن بأن الجميع أصبح يدير ظهره لإسماعيل ياسين باستثناء أصحابه المخلصين من الفنانين فعاش الغربة وعاش خوض تجربة تقديم التنازلات حتى يوفر لقمة العيش لأسرته فأصبح يعاني من تلك الظروف القاسية التي اضطر فيها للعودة للعمل في المقاهي الشعبية كمطرب حتى يوفر لقمة عيشه حتى عانى من تلك الظروف ومن انعدام التقدير لتاريخه الفني الكبير وهو الذي قدم ذلك الفن حتى في صعيد الجولات والصولات التي خاضتها مصر في تلك الفترة في حروبها.
لكنه وبرغم المسيرة الكبيرة وجد نفسه خارج لعبة الشهرة وكأن مسرحيته التي مثلها “إسماعيل ياسين للبيع” كانت حقيقية فلم يجد من يقدم له أكثر من النسيان لمكانته وفنه الذي من خلاله كان يضحك الناس به وكأنه بائع السعادة.
إن إسماعيل ياسين هو صورة مكررة من واقع الفنانين والكتاب والمثقفين الذين يموتون فقراء دون وضع مادي ثابت تضمنه لهم الجهات الكفيلة برعاية الإبداع على مختلف أنواعه، فيموت هؤلاء المبدعون وهم يعانون من التهميش والحاجة والبؤس وعدم توفر دخل مادي ثابت جيد لأسرهم بعد وفاتهم وكأن الإبداع حالة عابرة طارئة لا تستحق الاحترام والدعم إلا أن الأكيد بأن الإبداع لا يصنع ثروة إنما يصنع أمة وثقافة.
لقد أمر السادات في تلك الفترة بصرف 100 جنيه مصري في الشهر كراتب لإسماعيل ياسين حينما عرف عن حالته الصعبة ولكنه ليس بالمبلغ الذي يوازي قيمة هذا الفنان الذي أسهم في صناعة المسرح المصري في مصر.. وعلى الرغم من أن ياسين خرج من الحياة حاملاً معه حزناً بديلًا عن قيمة الفرح التي كان يقدمها للناس إلا أن مثله الكثير ممن قدم الكثير من الإبداع والفكر والفن ولكنه خرج من اللعبة منسياً وحيداً. ويبقى السؤال الشائك والكبير: ما الذي يمنع المؤسسات المعنية بالثقافة والأدب والإبداع أن تجعل “المبدعين” على قائمة الصدارة من الاهتمام وأن تحفظ لهم قيمتهم نظير ما قدموه؟. أن تمنحهم المساكن وتضمن لهم دخلًا شهرياً محترماً يليق بمكانتهم الأدبية وتضمن لهم العلاج الصحي المميز وبسقف مفتوح؟ وكم اسم ممن أفنى عمره من أجل الإبداع عليه أن يخرج منسياً مهملاً حتى نقرر أن نكافئ مبدعينا ونحترم تاريخهم الطويل وبرغم ذلك لم نفعل؟.
المصدر: جريدة الرياض