محمد رُضـا
هناك مخرجون يستطيعون الحديث إليك حتى صباح اليوم التالي عن كل شيء في السينما: الأفلام، الاتجاهات، المعلومات، من أخرج ماذا ولماذا وكل التاريخ المكون من عشرات ألوف الأفلام التي خرجت من مصانع العالم المتقدم.
سبايك لي ومارتن سكورسيزي وبرايان دي بالما من هذا النوع، كذلك كونتِن تارانتينو وعلى نحو مختلف.
ربما سينظر سبايك لي صوب الأفلام التي وجدها مهينة للأفرو – أميركيين أو لتاريخ سينما المهاجرين على الشاشة. مارتن سكورسيزي مولع بسرد كل شيء. لديه معرفة شاملة بسينمات العالم، وشاهد منها ما قد يزيد عما شاهده معظم الآخرين من زملائه. دي بالما، أو فرنسيس فود كوبولا، سيقدمان على ما هو أكاديمي الصبغة. دي بالما يحفظ كل شيء أنجزه هيتشكوك ولو أنه ترك استنساخ أفلامه منذ مطلع التسعينات. أما تارنتينو فسيحدثك حتى الصباح عن سينما لم تكن واردة على بال أحد أنها ستترك تأثيراً على مخرج نجيب. لكنها في حالته فعلت ذلك.
أبطال مختلفون
تارنتينو مخرج بالفطرة. كان يعمل في شبابه في محل فيديو. هذا كان في السبعينات. كان يؤجر ويبيع ويشاهد. شاهد كل ما استطاع المحل استيعابه من أفلام. كانت أشرطة الفيديو هي السينماتك التي صقلته. لكنه اهتم أكثر بسينما الستينات والسبعينات. كونه وُلد في العام 1963 سمح له عدم الشعور بالغربة حيال موجات السينما وتياراتها آنذاك. وهناك صنفان من الأفلام التي اهتم بها أكثر من سواها: أفلام بوليسية أميركية من بطولة ممثلين أفرو – أميركيين وأفلام أكشن ووسترن إيطالية. حين قرر أن يصبح مخرجاً لم يكن في باله إنجاز أي نوع آخر ولم يكترث لتحقيق أفلام تنتمي إلى مدارس أميركية أو إلى نماذج كلاسيكية.
الأفلام البوليسية الأميركية التي قادها ممثلون سود في تلك الفترة كانت جديدة حتى على الجمهور وشركات الإنتاج على حد سواء. سُميت بـBlackexploitation لسبب مهم نابع من التسمية ذاتها: هي الأفلام التي تستثمر في شخصيات البطل الأسود، رجلاً كان أم امرأة. مجرد اختياره عوض مشاهدة فرانك سيناترا وجون واين وكلينت ايستوود ومن جاورهما، كان نقلة أساسية في تدرج السينما الأميركية صوب التعددية آنذاك.
تارنتينو كان واقعاً في غرام الانفلات من قيود السرد الكلاسيكية. أحب أفلاماً تستغل المكوّنات الاجتماعية والعاطفية في حياة السود لتقديم وجهة نظر مختلفة وأحداث تنبع من حاجة مجتمع كامل للتبلور على الشاشة ونقل ما يحدث في هارلم وجواره. لم تكن أداة تعليمية (ولم يكن معظمها جيداً) بل كانت مغامرات يواجه فيها البطل الأسود أعداءه من البيض وكذلك من السود الذين كانوا يعملون مع العصابات البيضاء ويذعنون لها. أفلام مثل «شافت» (بطولة ريتشارد راوندتري) و«سلوتر» (جيم براون) و«بلاك سيزر» (فرد ويليامسون). ثم خصوصاً الأفلام التي قادت بطولتها ممثلات أفرو – أميركيات: تامارا دوبسون («كليوباترا جونز») وبام غرير («كوفي» و«فوكسي براون») وماركي باي («شوغرهل») وسواهن.
السبب هنا يعود إلى شغفه بالأنوثة غير الناعمة. تلك المثيرة عاطفياً والخشنة في تصرفاتها والقوية في قدراتها.
وبما أن هذه الأفلام لم تدخل جعبة المخرجين الكبار آنذاك (أمثال نورمان جويسون وسيدني بولاك وجورج روي هيل) الذين اعتبروا أنفسهم، وعن حق، أعلى مستوى وأعرق تاريخاً من ولوج مثل هذه الأفلام السريعة، فإن هوليوود تركت لمجموعة من المخرجين الفالتين من توصيات الفيلم الكلاسيكي تحقيق هذه الأعمال التي بقيت متوفرة – كتيار – حتى السنوات الأخيرة من السبعينات. من بينهم، على سبيل المثال فقط، جاك هِل، وجاك ستارِت، وروبرت هارتفورد ديفيز («بلاك غن») وسولومون كلارك («هامر») لجانب آخرين كثيرين معظمهم مر عابراً ولم ينتقل من تلك الأفلام لما هو أعلى مكانة فانتهى عملياً إلى البطالة.
ولعه بالإيطالي
المقابل الإيطالي لم يكن مختلفاً من حيث إن ما شغل بال وقلب تارنتينو لم تكن أفلام فديريكو فيلليني ولوكينو فيسكونتي وألبرتو لاتوادا أو فرنشسكو روزي (وبالتأكيد ليس أفلام مايكل أنجلو أنطونيوني) ولا أي من السينمائيين الذين بنوا للسينما الإيطالية مكانتها الفنية مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الثمانينات، بل تلك التي تسرّبت كالماء من تحت الباب وشكلت تياراً واسعاً وطوفاناً من الأفلام البوليسية والوسترن السريعة.
ما صاغ وله تارنتينو من تلك الأفلام تلك التي أخرجها سيرجيو ليوني وسيرجيو كوربوتشي وداريو أرجنتو (ولو أن تارنتينو امتنع عن تحقيق أفلام رعب حتى اليوم) وفرنينادو بولدي وفرانكو جيرالدي من بين آخرين عديدين.
في تلك الفترة كانت السينما الإيطالية وجدت منجم ذهب متمثل في تقليد سينمات هوليوود بأسعار بخسة. الناتج كان موجة استمرت من نهاية الخمسينات إلى أواخر السبعينات تم خلالها تحقيق أفلام تاريخية وبوليسية وخيال – علمية وأفلام وسترن وأفلام رعب ولم ينج حتى جيمس بوند من التقليد فتم صنع نسخ من بطولاته في أفلام تحمل سخريتها في عناوينها مثل «جيمس تونت» و«العميل 707» و008: العملية إبادة». السبب في هذا الوله هو ذاته الذي حرّك تارنتينو حيال الأفلام السوداء الأميركية. أساساً كونها متحررة من ضبط المعايير الفنية الدقيقة وأكثر استقلالاً في الإنتاج من تلك التي تتداخل فيها عناصر وأطراف الصناعة. ذلك الشعور بأنها غير منظمة والمتوجهة في الأساس إلى جمهور لا يطلب الفن بل الترفيه بصرف النظر عن مستواه. لكن تارنتينو لم ينقل الشرط الأخير بكامله. صحيح أن فيلمه «جاكي براون» (بطولة بام غرير، 1979) وقبله «بالب فيكشن» (1994) كان استيحاء من سينما البلاك إكسبلويتاشن وأن «دجانغو طليقا» (2012) حمل عناصر الوسترن الإيطالي، إلا أن المخرج لم يتصرف من دون مرجعيات فنية ارتفعت بأفلامه هذه عوض أن تكتفي بحمل تأثيراتها كما هي.
أفلام كونتِن تارنتينو التسعة حتى الآن تحمل بالطبع هواة بتلك الأفلام الرخيصة التي انتمت إلى تلك الفترة المحددة من تاريخ السينما، لكنها ارتقت في شروطها الفنية عن العديد منها. استثمرت في حب المخرج لتلك الفترة (كما الحال في فيلمه المقبل «ذات مرّة في هوليوود») لكنها تمتعت كذلك بأسلوبه الخاص في تحريك ومعالجة أحداث أفلامه وشخصياتها وتميّـزت بمواقف مستقلة عما ورد في التيارين السابقين.
تارنتينو غير مطروح اليوم لإنجاز فيلم جيمس بوند التالي ولن يتم اختياره لتحقيق إعادة صنع لفيلم «ذهب مع الريح»، لكن ذلك لا يهمه أساساً ولو أنه لم يفصح بعد عن كنه فيلمه العاشر المفترض به، تبعاً لما صرح به، أن يكون آخر أفلامه. لكن كيف سيكون ذلك ممكناً وهو غارق في معاينة ثلاثة مشاريع جديدة؟
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط