«فخر السويدي».. سرد كوميدي منسوج بروح المكان
عبدالله آل هيازع

الكوميديا من الأنواع التي لا تتيح لك مساحة للحياد أو الموقف الرمادي؛ فهي غالبًا تُشاهد مرة واحدة، يتبعها فورًا حكم حاسم، يُترجم إما بصمتٍ طويل أو ضحكةٍ صادقة. لا مجال فيها للَّبس أو سوء الفهم. وتزداد حدة هذا الحكم حين تشاهد قصة تنتمي لبيئتك، تحمل جزءًا من ذكرياتك، وتسهم لاحقًا في تشكيل وعيك بالحياة، كمدرستك التي قضيت فيها سنوات طويلة. فالعودة إلى بيئة مألوفة ليست صعبة بحد ذاتها، لكنها تصبح أكثر تعقيدًا عندما تكون الغاية انتزاع ضحكة صادقة؛ فالحنين يسهم في التعاطف مع القصة، لكن الكوميديا تبقى رهينة صدق الطرح.
وفي السعودية، تتشابه المدارس من أقصى الجنوب إلى الشمال، وكأننا أبناء مدرسة واحدة، لا تختلف طموحات من فيها عن تشابه عماراتها في مختلف المناطق. من هنا تحديدًا تبرز جاذبية فيلم فخر السويدي، لأنه كُتب بروحٍ صادقة وإيمان عميق بجاذبية بيئة قادرة على أن تمنح الكثير.

الشرعي.. عنصر التحولات الكبرى في حياة دبكة
تدور أحداث الفيلم حول شاهين دبكة، مدير ثانوية «فخر السويدي»، الذي ينشئ فصلًا جديدًا، الفصل «الشرعي”، ساعيًا إلى ترسيخ بصمةٍ خاصة وتحويله إلى نموذج مميز. لكن هذا الفصل، الذي يُعدّ لدى شريحة واسعة في المجتمع، وأيضًا لمعظم من يلتحقون به، ملاذًا من تعقيد المواد العلمية، يطرح الفيلم تحديًا مضاعفًا أصعب من فكرة الالتحاق بالمسار الشرعي حين يُدار بشخص مثل شاهين دبكة.
شاهين دبكة، الذي يؤدي دوره «فهد المطيري – أبو سلو»، شخصية تؤمن إيمانًا عميقًا وصادقًا بأهمية التربية وخلق عوامل تؤثر في جعل الطلاب يخرجون ملمّين بالحياة نفسها، وعارفين كيف يجدون مكانهم فيها وشغفهم تجاه هذا الموقع. ينبع هذا الإيمان من نية صادقة لديه تجاه عمله، واستشعاره لمسؤوليته الحقيقية في توجيه طلابه لما يطمحون إليه. لكنه، رغم نواياه الحسنة وحب طلابه الكبير له، يفتقر إلى مهارات إدارية أساسية، فلا يكفي أن تحمل نية طيبة تجاه طلابك وعملك فقط، بل يجب أن تتقن إدارة المشروع والتعامل مع الواقع.
هنا، تتجلى أزمة مشروع شاهين وفصل الشرعي، إذ يظهر عدم تماسك هذا المشروع مع واقعية الحياة، وعدم اهتمامه بها بشكل كافٍ. ويتمثل التهديد الأكبر في الشركة الإدارية التي تملك المدرسة، وبشكل أكثر تحديدًا في أخيه معين «أسامة صالح)، الذي يشكل ضغطًا إضافيًا يشعر به شاهين ويكبل حركته، خصوصًا لأنه هو الأخ الأكبر، لكنه في موقع أدنى إداريًا من أخيه.
شخصية شاهين دبكة بالفعل مميزة في تركيبها ومبادئها، وكذلك طلابه الثلاثة الذين قدّمهم الفيلم في مشهد بسيط وذكي، ينقل كوميديا واقعية مألوفة. يمثل كل منهم صراعًا شخصيًا: زياد «فيصل الأحمري»، الذي يلجأ للكذب لتجاوز مواقف معقدة تلازمه طوال الفيلم، ومازن «سعيد القحطاني»، الذي يبدأ مشاجرة مع زياد ردًا على شتيمة وُجهت إلى أمه، التي تمثل له كل شيء في ظل غياب والده، وسعيد «يزيد الموسى»، التائب حديثًا، المتمسك ببعض المبادئ والمفرط في أخرى، إذ يرفض الشتائم لكنه لا يمانع الصفعات.
كان ذلك المشهد، وغيره من نقاط القوة في الفيلم، إذ تسلّحت بتباين شخصياته وصدقه في نقل بيئة المدرسة. فكان التفاعل بينهم ينبض بكوميديا تلقائية، حيث لا مصدر محدد للنكتة، بل يتقاسم الجميع لحظة الدعابة. والكتابة هنا كانت ذكية؛ إذ جعلت كل شخصية تساهم برؤية فريدة في المشهد الواحد، ليولد نوع ضحك مختلف مع كل منهم. وهذا، في كتابة الكوميديا، تحدٍّ صعب؛ يتطلب ضبطًا دقيقًا لإيقاع النكتة دون كسرها.

النكتة وحدها لا تكفي
عند تتبع مراحل إنتاج الفيلم، نكتشف أنه كان في الأصل مشروع مسلسل، لكنه حُوِّل إلى فيلم سينمائي، وهذا التحول فرض إيقاعًا وسردًا مختلفَين، لم يتأقلم الفيلم معهما بالكامل، فظهر بتماسك ضعيف، وأثر ذلك سلبًا على إيقاعه الذي تذبذب كثيرًا، ولجأ صناعه إلى قطعات مفاجئة أخرجت المشاهد من موضوع إلى آخر بشكل مزعج وفجّ. عزّز هذا الضعف تقسيم الفيلم إلى ثمانية فصول، لكل منها عنوان مختلف، وكأن الراوي لها هو شاهين دبكة. لكن الفيلم ليس من منظوره فعلًا، ففي العديد من المشاهد لا يكون متواجدًا. هذا التقسيم أضعف من وحدة الفيلم وتماسكه السردي، وجعل المتفرج يشعر وكأنه يشاهد مسلسلًا جُمعت حلقاته في ساعتين، لا فيلمًا بسردٍ واضح ومتسق، فالانتقال من فصل إلى آخر جاء دون تطور فعلي، وهو ما أثّر أيضًا على الشخصيات، إذ لم تمتلك كل شخصية خطًا واضحًا يمكن تتبعه، كأننا في لحظة نشاهد مشهدًا لها من الحلقة الثانية، ثم ننتقل مباشرة إلى الأخيرة، دون تصاعد منطقي. فضلًا عن بعض الفصول التي شعرت خلالها بملل كبير بسبب ضعف الترابط، وطول المدة غير المبرر.
خيار أن يمتد الفيلم الكوميدي لساعتين هو خيار مقلق، ولا أجد أن صناعنا المحليين يولونه العناية الكافية. فمثلًا، من أوائل التجارب التي واجهت هذا الإشكال كان فيلم «شمس المعارف للأخوين قدس» الذي بلغت مدته ساعتين، وعانى من طول المدة، خاصة في نصفه الثاني. إلا أن الأخوين خرجا في لقاء لاحق وأكدا أنهما كانا يفضلان النسخة الأطول، التي قاربت الساعتين وعشرين دقيقة. أذكر هذا المثال لتوضيح هاجس الطول الذي يلاحق بعض الصناع، في ظل تهميش الإيقاع، وهو العنصر الأهم في الكوميديا.
في فخر السويدي، كانت الظروف الإنتاجية مختلفة بالطبع، لكني أرى أن المدة قد مُدِّدت أكثر من اللازم، فأضرت بإيقاع الفصول. كما أن الشريط الصوتي لم يكن متسقًا مع روح المشاهد؛ وكأن من اختاره لم يُراعِ طبيعة المشهد أصلًا. هاتان النقطتان بالتحديد «الإيقاع والموسيقى» كانتا ما نغّص تجربة المشاهدة، وجعلتاها أثقل، خاصة مع مدة الفيلم الطويلة.

ختامًا
عند عرض الفيلم في مهرجان أفلام السعودية، لاحظت احتفاءً كبيرًا وغير مسبوق بتجربة كوميدية كهذه. وبعد المشاهدة، أجدني أتفق مع هذا التقدير، وأرجعه إلى طريقة البناء البسيطة للحبكة، وإسقاطها على عالمٍ مميز، وخلق شخصيات تحمل وهجًا كوميديًا قويًا.
نجح الفيلم في تقديم مواقف وموضوعات تلامس جمهوره، فطرح مشاكل المدرسة والطلاب في بحثهم عن الشغف أو نضالهم لأجله، كما تناول المدرسين أنفسهم باختلاف رؤاهم لمهنتهم وتعاملهم مع طلابهم. هذه المعالجة الذكية، المتسلّحة بعناصر كوميديا قوية وصنعة معقولة، كانت لتثمر أكثر لولا تذبذب الفصول.
ولا يمكن أن نغفل أداء أبطال الفيلم، وقدرتهم على إيصال هذه المشاعر وخلق توازن في مشاهد الحوار الطويلة، التي وإن كثرت، لم تكن من لحظات الملل التي أشرت إليها.
لأجل كل ذلك، أرى أن فخر السويدي يحمل صوتًا كوميديًا واعدًا، أتمنى أن أراه يُعاد، ويُعاد، ويُعاد.