من «شارع الأعشى» إلى الذاكرة الجماعية.. تفكيك السرد من الداخل
ديمة المقرن
لم تكن الذاكرة الجماعية في السياق السعودي يومًا سردية أحادية مطلقة، فلطالما تنافست عليها أصوات متعددة، وتقاطعت داخلها التأويلات. وبين تجاذبات الذاكرة تحت مظلات أيديولوجية كبرى تتأرجح بين التمجيد والنقد تشكَّلت سرديات بديلة تستمد مشروعيتها من الواقع الاجتماعي الحي، ومن تفاصيل المعايشة اليومية.. هذا الفضاء المفتوح الذي تصفه الأدبيات الثقافية بما يُعرف بـ«السرد التفاوضي للذاكرة الجماعية»، هو ما يجعل مسلسل “شارع الأعشى” اليوم في صدارة المشهد كفعل ثقافي ينطلق من قاعدة المجتمع، حيث يُعاد تعريف الهوية وتسترجع الذاكرة من الداخل.
يأتي «شارع الأعشى» في هذا السياق كمساهمة سردية نوعية، تبتعد عن منابر الخطابة وتعيد قراءة التحولات من قلب المجتمع، من واقع الناس المعيش كما هو لا كما صاغته النخب. لقد انشغل العمل عن الشعارات الكبرى واتجه مباشرةً نحو الناس العاديين مستلهمًا السرديات من داخل البيوت والشوارع والأسواق، حيث تتجسد الحياة بتفاصيلها الصغيرة وعمقها الرمزي.
اعتمد «شارع الأعشى» في بنائه على أطر سرد مبتكرة؛ إذ تجنب البطولة الفردية والخطاب المباشر، ووزَّع الأحداث عبر شبكة من الشخصيات التي تعكس هموم الناس وتطلعاتهم. وبهذا صار المجتمع نفسه بطلاً جماعيًا تبرز من خلاله تحولات الحياة اليومية باعتبارها جزءًا نشطًا من التاريخ لا مجرد طبقة خاملة. منحت هذه الأطر المتعددة المسلسل بُعدًا ظاهراتيًا، حيث تعمَّق في وعي الشخصيات وتجاربها الذاتية، ليمكن المشاهدين من فهم الحياة في ذلك الزمن بنظرة أكثر شمولًا.
أتاح هذا الفهم للعمل التقاط نبض الحياة اليومية بمصداقية عالية وقرب من خبرة المشاهد، وفتح المجال لظهور أصوات بقيت لفترة طويلة على هامش الحكاية ليعيد لها موقعها الطبيعي في تشكيل المعنى الجماعي. وهكذا، تحوَّل المشهد الدرامي إلى فضاء متعدد الأصوات والمواقف، تنعكس فيه الأطر السردية كمرآة لواقع حي ومتحرك ومتعدد الأصوات.
لقد كان «شارع الأعشى» مساحة رحبة لتفكيك الأطر التقليدية للدراما السعودية وإعادة تقديمها بصورة أكثر ثراءً وتعقيدًا. لم يقف التأطير عند الثنائيات السائدة مثل التراث والحداثة أو المحافظة والانفتاح، أو الخير والشر، وفي الوقت نفسه لم يقم بإقصائها، بل دمجها في سياق سردي جديد يعكس العلاقات الاجتماعية بوصفها عملية تفاوض مستمر. ظهر المجتمع في «شارع الأعشى» فاعلًا في صناعة تاريخه، لقد كان بيئة قادرة على تشرب التناقضات والتفاعل معها في حركة مستمرة تسعى للاستقرار بحثًا عن توازنات جديدة، وذلك بالتفاوض المستمر بدلًا من الاستسلام التام أو المواجهة الصدامية.
يقارن كثيرون هذا المسلسل بأعمال درامية مشابهة مثل «العاصوف» الذي أثار جدلًا واسعًا حول دقته التاريخية أو تسييسه للذاكرة أو مبالغته في التوثيق والخطابة على حساب الفن، إلا أن “شارع الأعشى” تفادى هذه الإشكالية باعتماده أفقًا سرديًا يمنح الشخصيات أولوية على الأحداث، ويجعل من الحياة اليومية مصدرًا غنيًا للمعنى. ولم يحمّل المسلسل أي جهة أو تيار وزر الانكسارات الاجتماعية أو مسؤولية التحولات الناشئة، بل صوّر المشهد بوصفه نتاجًا مركبًا لتفاعل عوامل متعددة تتجاور فيها حركة «الصحوة» مع التقاليد الاجتماعية، والطفرة الاقتصادية، والتغيرات العمرانية والتعليمية، إضافة إلى تعقيدات النفس البشرية وتفاوت الاستجابات الفردية لهذه التحولات.
أعاد العمل كذلك الاعتبار للذاكرة الحسية في أحياء الرياض القديمة؛ إذ لم يستخدم هذه الأماكن والأزياء كخلفية ديكورية، بل كجزء حي من ماضٍ ظل محجوبًا عن الأجيال الحالية. استرجعت هذه الذاكرة من بقايا الأماكن، وحكايا الأمهات والجدات، وطقوس الحياة اليومية التي بقيت ملامحها حاضرة في ذاكرة بعض الأسر، وتمَّ إدراجها ضمن نسق سردي يعكس تفاعل الإنسان مع هذه الماديات ويبرز دورها الوظيفي في الحياة اليومية، مما يعزِّز تأويل المعاني ويقوِّي الإحساس بالزمان والمكان.
ومن أبرز ملامح السرد أيضًا تقديم المجتمع بوصفه بنية مرنة تتعايش داخلها فئات وخلفيات وثقافات متعددة. يتضح ذلك من خلال شخصية «وضحى» المرأة البدوية التي انتقلت إلى المدينة وانصهرت في النسيج الاجتماعي دون أن تفقد هويتها الثقافية. وتكرر هذا النمط مع فئات اجتماعية أخرى من حضر وبدو، مواطنين ومقيمين، ومتعلمين وأميين. حيث لم تبدُ كتناقضات صارخة، بل كعناصر طبيعية لمجتمع يتشكل من خلال التفاعل والتفاوض والتعايش اليومي.
أمَّا تناول التحول الديني في المسلسل، فجاء بمعالجة هادئة دون تضخيم درامي صاخب أو لحظات مفصلية، حيث عرضت كتحول ثقافي يتسلل تدريجيًا إلى النسيج الاجتماعي. تجلت ملامحه في تبدلات متراكمة شملت أنماط اللباس، وتزايد مظاهر التحفظ داخل البيوت، وارتباك الأمهات في رسم حدود ما يعد مسموحًا أو ممنوعًا، مشكلًا ما يشبه إعادة ترتيب للقيم داخل المجتمع. كما أن هذه المقاربة لم تتخذ موقفًا تبريريًا أو تمارس إدانة مباشرة، بل جرى استعراض كيفية حدوث التحولات الثقافية التي تتسرب إلى الجدران والنفوس على مهل، مما يمنح المشاهد فرصة تأويل هذه المرحلة دون أحكام مطلقة، ويعزِّز مفهوم التفاوض على الذاكرة حتى في الأحداث المفصلية.
وُجِّهت انتقادات واسعة للمسلسل بدعوى تشويه صورة المجتمع – آنذاك – من خلال تصوير تجاوزات أخلاقية في سياق العلاقات العاطفية، وكأنها سمة عامة تخالف واقع المجتمع. لكن التحليل السردي يظهر أن هذه الأحداث جاءت منسجمة مع رؤية العمل في إبراز تعددية الأصوات داخل المجتمع دون إقرارها، بل لعرض تفاعلها مع القيم السائدة. وقد برز ذلك من خلال التوتر الدرامي وردود الفعل التي تظهر تدينًا طبيعيًا وسلوكًا محافظًا، وأكدت حضور الرادع الاجتماعي ودوره في إعادة التوازن الأخلاقي. وبهذا تحولت التجاوزات إلى أداة سردية تسهم في بلورة الذاكرة الجماعية عبر النقد والحوار العام وإثارة التساؤلات ضمن قراءة اجتماعية وثقافية أوسع للماضي.
جاء مسلسل «شارع الأعشى» في لحظة يتحرك فيها الوعي المجتمعي نحو إعادة تعريف هويته، وسواء كان ذلك بقصد أو غير قصد من فريق العمل، فقد شكَّل المسلسل امتدادًا سرديًا لرؤية وطنية وتحول ثقافي أوسع يتبنى الانفتاح والوسطية كامتداد طبيعي لهوية متجذرة في المجتمع، وليس ثقافة مستوردة من الآخرين. والذاكرة في هذا السياق، تمثّل ممارسة ثقافية تفتح حوارًا مستمرًا بين الماضي والحاضر في بحث واعٍ عن المعنى يستند إلى الماضي كمرجعية تأويلية تسهم في بناء هوية مرنة قادرة على التكيف والتجدد دون أن تفقد جذورها.
لقد أثار المسلسل أسئلة جوهرية حول من يمتلك حق التمثيل، وكيف تنتج السرديات التي تشكل الذاكرة الجمعية والهوية المشتركة. وفي ظل التحولات الوطنية الراهنة يبرز المسلسل كمرآة تعكس قلق المرحلة الانتقالية وتلتقط تردد الخطاب العام الذي يقف أحيانًا على مسافة حذرة من اتخاذ مواقف واضحة تجاه التغيير. وهنا لا يكتفي المسلسل بنقل الواقع كما هو، بل يشارك في قراءته، ويعيد الاعتبار لفعل السرد كأداة معرفية لفهم الذات الجماعية.
ومن هنا، تبرز القيمة الثقافية للدراما بوصفها خطابًا تفاوضيًا يشارك في إنتاج المعنى، ويعيد تشكيل الذاكرة الجمعية من خلال أدوات درامية وآليات سردية مرنة تواكب التحول وتمنحه بعدًا إنسانيًا وجمعيًا في الوقت نفسه.