سوليوود «متابعات»
إذا كانت السينما الأميركية، الهوليوودية بصورة خاصة، أبكرت في جعل نفسها موضوعاً لأعداد متزايدة من شرائط طويلة أو قصيرة، روائية أو حتى وثائقية راحت تزداد قوة وربما شراسة أيضاً مرحلة بعد مرحلة، لتصل إلى ذروتها باكراً في فيلم سانست بوليفار للمخرج بيلي وايلدر، فإن فنانها الكبير والفريد من نوعه تشارلي شابلن خاض النوع بدوره باكراً، بل ربما منذ بداياته وقبل أن يتحول إلى الإخراج، وتحديداً منذ مفتتح عام 1914، جاعلاً من فيلمه الأول كيد أوتو يسابق في فينيسيا فيلماً يغمز من قناة السينما كما كانت تُصور في ذلك الحين.
صحيح أن شابلن لم يكن مخرج ذلك الفيلم، بل عمل تحت إدارة هنري ليمان الذي كان أداره قبل ذلك مباشرة في تجربة أولى تولى فيها شابلن الجانب الفني وتحديد الموضوع، بينما اشتغل ليمان على الجانب التقني وراء الكاميرا. كانت التجربة الأولى شريط اكتساب الرزق الذي كان أول احتكاك للمهرج الآتي من لندن، ومن ثم من المسرح قبل حين. وسنرى في نهاية هذا الكلام أن شابلن كان قد انضم للعمل في السينما فقط بأمل أن يحقق من خلالها بعض الأرباح التي تمكنه من العودة للمسرح، لا للندن بالطبع، في محاولة منه لإنقاذ ذلك الفن المسرحي الذي يحبه ولا يفضل السينما عليه، لكنه علق في الفخ بحسب تعبيره نفسه كما سنرى. وكان شابلن في ذلك الحين لا يزال في الرابعة والعشرين من عمره. وسيتضح أن الفنان الشاب لم يكن راضياً كل الرضا عما شاهده في عالم السينما، وهو سيعبر عن ذلك على أية حال في الأفلام الخمسة التالية التي صوّر أولها مباشرة بعد تلك التجربة الأولى، وأيضاً تحت إدارة ليمان الذي كان أشبه بظل له. والحقيقة أن نظرة شابلن إلى الفن السابع، التي ستكون واضحة في كل واحد من تلك الأفلام الخمسة، تكاد تؤكد لنا أنه بالفعل لم يكن يحب السينما، وربما كان قد دخل عالمها أول الأمر لكي ينسفها من الداخل! وحسبنا هنا أن نراجع ما كان ذلك الفنان يحاول قوله في كل واحد من تلك الأفلام المبكرة حتى نتيقن من ذلك.
اختراع صعلوك داهية
انتهى تصوير اكتساب الرزق بين الخامس والتاسع من يناير (كانون الثاني) 1914، وعلى الفور، في اليوم الحادي عشر، انطلق ليمان وشابلن لتصوير فيلم سباق فينيسيا الذي سيعرف تاريخياً بكونه الفيلم الذي ظهرت فيه شخصية الصعلوك (شارلو) للمرة الأولى، بعدما صاغها على قياسه وحدد ملامحها.
وسيكون لافتاً أن أول مشهد صُوّر لهذه الشخصية في فيلمها الأول ذاك، هو مشهد نرى فيه المهرج وهو يزعج بصورة مقصودة فريقاً سينمائياً يقوم بتصوير سباق يشارك فيه الأطفال. والطريف هنا هو أن المشهد صوّر جمهوراً حقيقياً يشاهد شارلو وينزعج منه للمرة الأولى، بينما يحاول فريق التصوير كل السبل لإزالة الصعلوك المزعج عن طريق المتسابقين. ولكن عبثاً، إذ بدا من الواضح، كما يشير مؤرخ السينما الناقد رينيه ماركس، أن “الصعلوك يؤكد أنه هنا ليبقى طويلاً”. ويلفت الناقد نظرنا إلى أن عنوان الفيلم حين عُرض في فرنسا كان شارلو راضٍ عن ذاته، وهو الذي إنما أتى إلى عالم السينما ليعبّر عن عدم رضاه عن الكيفية التي كانت تُصنع بها.
شارلو متفرج عاشق
في فبراير من العام نفسه، وفي فيلم تالٍ بات دور شابلن في إخراجه أكبر، وعنوانه فيلم جوني، يطالعنا الصعلوك هذه المرة، ونراه متفرجاً في صالة سينمائية يشاهد واحداً من أفلام شركة كيستون الحافلة بالصبايا الجميلات، ويقع في غرام واحدة منهن تطل عليه من الشاشة، فيجد نفسه وقد تسلل إلى عالم الاستديو لمقابلة النجوم دون أن ينتبهوا إليه. وهناك يحاول إزعاج تصوير مشهد يجد نفسه داخله، مما يخلق ارتباكاً عاماً من الواضح أنه شكل نوعاً من موقف شابلن إزاء الأداء المهني السينمائي، خصوصاً أن المشهد تمكن بالطبع من إثارة ضحك الجمهور الذي تماهى هنا مع الصعلوك على الرغم من هيامه بالسينما. ولعل هذا التماهي هو الذي خلق لدى شابلن فكرة فيلمه التالي وعنوانه تبرج.
وفيه نشاهد شابلن جالساً إلى جانب زميله فاتي وهما يتبرجان استعداداً للتصوير، فيتحول شابلن إلى صعلوك ثم إلى امرأة، ويتابع في الحالين استعراض عالم الاستديو من داخله، ساخراً من كل ما يمر به، وكأنه يتعمد الكشف عن أسرار اللعبة السينمائية، والكشف تحديداً بصورة شديدة اللؤم لم يسبقه إليها أحد في عالم السينما.
مزيد من اللؤم المدروس
وفي عام 1915، ينتقل شابلن من العمل لحساب شركة كيستون إلى العمل لحساب شركة إيسيناي، إذ يبدأ بنفسه تولي الكتابة والإخراج إلى جانب التمثيل، ودائماً تقريباً من خلف قناع الصعلوك شارلو. وسيصور فيلمه الأول مع الشركة الجديدة في شيكاغو، جاعلاً منه يغوص أكثر وأكثر في عالم الموضوع السينمائي.
فهذه المرة، ها هي إدنا بورفيانس، شريكته في حياته وعمله، تظهر تحت قناع سكرتيرة في شركة إنتاج. صحيح أنها لا تزال في السادسة عشرة، غير أنها تتمكن بلؤمها من أن تجبر شارلو على حرمانها من لعب دور كانت تحلم بلعبه. وفي الفيلم أيضاً الممثل الهزلي بن توربين، الذي يرمز في السيناريو إلى أولئك الذين نجدنا مجبرين على سحقهم حتى نصل إلى غاياتنا في عالم السينما.
وأخيراً، في عام 1916، ها هو شابلن، في الفيلم الأخير بين تلك المجموعة التي كرسها لنوع من “ملاحظات تكاد تكون نقدية تتعلق بالمسألة السينمائية”، يجمع لعبة المراشقة بقالب الغاتوه، الذي كان يملأ الأفلام المضحكة إلى حد التخمة، مع قبلة شديدة الغرابة يتبادلها هو نفسه على الشاشة مع إدنا بورفيانس، إنما متنكرة هذه المرة في ثياب فتى، وذلك مرة أخرى داخل استديو سينمائي.
رغبة في العودة للمسرح
من المؤكد أن حضور السينما في تلك الأفلام الخمسة وعلى تلك الصورة المشاكسة، قبل أن تكون أي شيء آخر، لم يكن بفعل الصدفة، بل يمكننا احتسابه كموقف سلبي من شابلن إزاء فن لم يكن راضياً عنه، كما أشرنا. والحقيقة أن في مقدورنا أن نُضافر هذه الحساسية السلبية تجاه الفن السابع، مع ما صرح به شابلن نفسه في ذلك الحين، ثم لم يتوان عن التذكير به لاحقاً، من أن الأمر كان بالنسبة إليه مجرد التوجه إلى العمل في السينما لفترة قصيرة يتمكن عبرها من جمع بعض المال لإعادة تأسيس مسرحه، في زمن كانت فيه كل الأموال تتوجه إلى السينما بينما المسرح خالٍ مفلس على الدوام.
“لكني علقت في الفخ السينمائي… ولم أجد من ينقذني منه!”، كما كان يقول، ويريد حتى في سنواته الأخيرة.